محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
نعم الشعب السوري العربي ليس قطيعاً من الخرفان ينتظرون الذبح بقلة حيلة، تلك الفكرة يجب أن تحارب وتقتل بأي ثمن كان، ويؤكد الواقع أنه شعب حي، حتى وكالات الأمم المتحدة أوقفت تسجيل عدد القتلى السوريين في هذه الحرب المدمرة، وهي التي تقع بين طلاب الحرية وحقوق الإنسان الطبيعية في الاختيار وفي القول، وبين ديكتاتورية قاهرة. منذ سنتين على الأقل أوقفت الوكالات الدولية المتخصصة تعداد القتلى السوريين، توقفت عام 2016 على أربعمائة ألف قتيل مؤكد قضوا تحت تدمير سلاح النظام السوري وبراميله المتفجرة وخلطته الكيماوية، وهي الأعداد المؤكدة التي ذبحها النظام وحلفاؤه في المدن والبلدات والقرى السورية، كما أوقف تعداد المُهجّرين والنازحين الذين شُتتوا الآن في كل مناطق الدنيا وأركانها، ويُعدون بالملايين. هل لمثل هذا النظام، بصرف النظر عن التفاصيل، أن يبقى وأن يعاد تأهيله؟ ذلك مضاد لمسيرة التاريخ، كما هو مضاد للمنطق، على الرغم من مرور سبعين عاماً من الاستقلال السوري عن فرنسا، الآن، فإن «حكم الأسد» العائلة، قد أخذ أكثر من نصف كل تلك المدة، وكأنها ملكت سوريا بشراً وأرضاً.. لم يقم نظام سياسي بربع ما قام به نظام الأسد من قتل وتدمير، وبقي على حاله. في المدى المتوسط سوف يسقط النظام؛ فقد خلّف الكثير من الكراهية العميقة والمقت لدى أوساط الشعب السوري بكل مكوناته، حتى من يخرج اليوم هاتفاً باسمه، وهم قلة، هؤلاء في داخل نفوسهم شبه يقين أنه من الممكن أن يصبحوا وأولادهم الضحية المقبلة. لقد انفتحت شهية الدم، وهي شهية ملعونة لا تتوقف عن طلب المزيد. يشارك النظام قوى كثيرة في تلك الشهية، الأولى هي الآلة الحربية الروسية.
روسيا ترغب في تحقيق أكثر من هدف؛ الأول هو استمرار أنظمة على شاكلتها، فتكون مرتاحة أكثر إن كان على الساحة العالمية أنظمة تشبهها. كما ترغب في أن يكون لها موطئ قدم في المياه الدافئة، الحلم القيصري القديم، يدفئ بها الشهية القومية الروسية التاريخية، وثالثاً يفرض وصايته في الشرق، التي فقدها في بعض مناطق أوروبا، وبذلك هو لا يرسل الطائرات والمدافع والجنود، بل وحتى المرتزقة الروس الذي تلفظهم «المافيات» من كل نوع، للقتال في الأرض السورية، بما يدفع لهم من مال، على أمل تكوين كتائب مرتزقة للبيع في أماكن أخرى من بؤر الصراع في العالم.
وفي الجانب الإيراني، يفضل نظام طهران أن يتوسع في العمق العربي، تحت شعارات شتى، ويجلب معه قوى شبه مرتزقة، تقاتل بسبب المال الذي يدفع لها، وبسبب التمكين في رقاب الناس لزعمائها الذين يلبسون لباس الدين. الحلال في كل ذلك هو دم الشعب السوري الذي يقتل كما النعاج أو أشد هواناً!
المفزع، أنه بعد إرسال الصواريخ من الدول الثلاث الكبرى في العالم احتجاجاً على ذلك القتل العشوائي بالكيماوي، تخرج لنا ألسنة النظام السوري ومحازيبه بمجموعة من المصفوفات المضللة، والمفارقة للمنطق، كاتهام الغير بالعمالة، في الوقت الذي يتحكم في سوريا اليوم كل من موسكو من جهة وطهران من جهة أخرى، ويوضع النظام السوري ليس في خانة العمالة، بل وفي خانة التبعية الذليلة المطلقة، وتسليم البلاد السورية لأجانب، يقبل كل ذلك فقط من أجل الاحتفاظ الشكلي بالحكم والرئاسة، التي لم تعد تعني حتى حروف كلماتها. كما يخرج سيل من التابعين للنظام في عملية واسعة لا تحترم حتى العقول، بالقول إن «النظام انتصر»، وإنه «أصبح أقوى مما كان»، بل يذهب التزييف في قول أحدهم علناً على التلفزيون، إن الأوامر صدرت أن «تُصد الصواريخ حتى بالمسدسات»! في إهانة مطلقة للعقل البشري السوي. في أي صراع بين إرادة الأغلبية، وإرادة الأقلية، تنتصر الأغلبية، مهما ظهر غير ذلك، ومهما طال الصراع، فالشعب السوري قاوم ويقاوم، وسوف يقاوم في السنوات المقبلة، ومن يعتقد أن تلك المقاومة قد ضعفت أو تراخت فهو واهم وغير مطلع على صيرورة تاريخ الشعوب في شرقها وغربها. حرص النظام السوري منذ أن تولى البعث (بالاسم) الحكم، على هيكلة وإعادة هيكلة الفضاء السياسي السوري على محور عائلة الأسد، التي حكمت أكثر من نصف عهد الاستقلال بكامله في أول ظاهرة توريث جمهورية على النطاق العربي! واستخدم في ذلك كل الأدوات غير السوية، منها الإخفاء القسري للمعارضين، وإلقاء الجثث في البحر (لا جثة لا جريمة)! والاغتيال في وضح النهار، كما حدث في بيروت عام 2005 في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، بأدوات أثبتت المحكمة الدولية تورطها في الاغتيال، رغم كل السيناريوهات التضليلية التي رافقت الاغتيال، من أبو عدس حتى الموساد الإسرائيلي. الاتجاه الكلي الذي يذهب إليه العالم هو التحرر وإشاعة حقوق الإنسان وبناء الأوطان على أسس حديثة عادلة، بقاء النظام السوري، يعني بقاء سوريا في ذيل التطور العالمي، يعني استمرار الماضي، وهو أمر لم يعد قابلاً للتنفيذ، بل أصبح مستحيلاً بقاء وممارسة النظام الحالي، بصرف النظر عن مؤيديه واستخدامهم القوة الغاشمة لإشاعة الصمت السياسي للسوريين. على مقلب آخر، فقد ظهر للعالم أنه رغم محدودية «ما عرف بالضربة الثلاثية»؛ فإن تهديدات النظام الروسي والنظام الإيراني في المقاومة وإسقاط الصواريخ، بل وضرب مواقع إطلاقها، كل ذلك لم يتبلور، فقد كان لغواً واستهلاكاً ينثر للعوام، وقد ظهر أن النظام الروسي غير قابل أن يذهب إلى حرب مدمرة بسبب تحالفه مع الأسد. في القادم من الأيام قد يعود نظام الأسد إلى استخدام أسلحة محرّمة أو قتل على نطاق واسع؛ فهو يرغب في تحقيق «انتصار» على شعبه، وقد تعود الدول الكبرى إلى التهديد أو الفعل، وقد تعجز موسكو وطهران عن تبرير كل ذلك القتل لشعب عربي يرغب في التحرر من نظام قمعي. وبسحب كل من الثقة بالنظام وضعف اليقين بضرورة وجوده، وهما عاملان سيؤديان إلى سحب التأييد العلني أو الخفي من النظام، والتشكيك حتى من حلفائه في إمكانية استمراره، هذه حقيقة لا تخفى على الروس على الأقل، وإن تم إخفاؤها على الشعوب الإيرانية أو أزلامها حتى الآن! فالسوريون ليسوا أشباه شياه ليستمر قتلهم، وفي وقت ما سوف يقدم كل من أجرم في حقهم إلى العدالة.
آخر الكلام:
تشهد المدن والبلدات والقرى السورية ما لم تشهده سدوم وعمورة من خراب!
المصدر: الشرق الأوسط