سورية.. حين تفقد كلمات الإنسانية معناها

آراء

خاص لـ هات بوست:

في الثقافة العربية تتجاوز كلمة «فَزْعَة» حدود معناها المباشر لتصبح رمزًا للإنسانية النبيلة، فهي تعني المبادرة إلى نصرة الملهوف وإغاثة المحتاج دون تردد، وتُجسّد أسمى قيم التضامن والمروءة والتكافل الاجتماعي، وترسخ مبدأ أن الإنسان في سعادته وكرامته يشارك الآخرين في محنتهم ويقف بجانبهم في لحظات الشدة.

غير أن الكلمة نفسها اكتسبت معنىً مختلفًا في سورية، فقد سمعنا في الأشهر الأخيرة كلمة «فزعة»، بمعنى انصر أخاك على قتل جاره، دون أن تعرف سبباً للعداء، سوى «الفزعة»، فيهب الناس كما نقول في العامية «يا قاتل يا مقتول» ليدخلوا في أتون حرب لم يعرفوا من أشعلها، كل ما يعرفونه أنك ستقاتل مع إخوتك في الطائفة أو المذهب ضد طائفة أخرى.

كيف نرث انتماءاتنا؟ نرث أوطاننا كبلاد ولدنا فيها نحن وآباؤنا وحملنا جنسيتها، ونرث ديننا بالطريقة ذاتها، وتتفاوت حدة الانتماء في وعي كل منا وفق تربيته، حتى نكبر ونعزز هذا الوعي أو نخمده، أو نتجه به نحو منحى آخر، وفي مجتمعاتنا غالباً يترافق الدين مع مذهب، نرثه أيضاً دون أن يكون لنا خيار فيه سوى الولادة في بقعة جغرافية معينة لعائلة معينة، ومهما ابتعدت فكرياً عن هذا الانتماء يبقى كوشم على معصمك، يفرزك هنا أوهناك، يرفعك تارة ويطيح بك أخرى وفق اعتبارات ظرفية، لست من يقررها.

في العقل الجمعي لكل فئة على حدة قناعة راسخة أنها هي فقط على صواب، هي دون غيرها من تحتكر الحقيقة، والبقية جاهلون. وسيظل هذا التقييم مقبولاً لو أنه لم يتخط الحدود نحو التكفير ثم العداء فالقتل والاستباحة، فما بالنا لو ارتكبت كل تلك الموبقات تحت راية الإسلام؟

في التنزيل الحكيم تجد الخلاصة التي تغنينا عن التبريرات، بداية من قوله تعالى {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(الحج 17) مروراً بقوله {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز}(الحج 40) الذي نفهم منه أن اسم الله يذكر أيضاً في الصوامع والبيع والصلوات، لا في نوع واحد فقط تقبله أنت، ثم إلى قوله جل وعلا {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 113) فتذكر قبل أن تكيل التهم لأصحاب الملل الأخرى أنك من بين الذين «لا يعلمون».

وإذا كنت مسلماً مؤمناً بما بين دفتي المصحف فستعرف أن الله تعالى ليس بحاجة لمن يدافع عنه، وأن البند الأهم في الإسلام هو العمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، والوصايا التي وصانا اتباعها قوامها الأخلاق، والمسلم لا يسب ولا يشتم ولا يسخر من أحد ولا يهمز ولا يلمز، فلا يسمي الناس «خنازير»، ولا يكيل الصفات البذيئة للنساء كلما صادفهن فقط لكونهن من أتباع مذاهب أخرى، هذا إذا اعتبرنا أن «السبي» والاغتصاب وما شابههما أموراً لم تحصل تحت راية «الإسلام».

ثم إن القاصي والداني يعلمان بقوله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام 164) فلا يمكنك الانتقام عشوائياً من طائفة بأكملها، هذا لو افترضنا أن الانتقام مسموح به، فإن قلت كتب علينا القصاص، سأقول لك نحن في دولة يفترض أنها مسؤولة عن القصاص، لا كل من له ثأر عند آخر انبرى ليأخذه، وإلا فسنغرق ببحور من الدماء والعيون والأسنان والظلم الذي لا ينتهي، ولك أن تتذكر قوله تعالى بكل الأحوال {وأن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التغابن 14).

فإن كنت مسلم بحق لا تنسى جارك الذي أوصاك به الله تعالى دون أن يحدد لك دينه، فلا شأن لك بصلاته وصيامه، ولست أنت من سيحاسبه، لا تنسى أنكم عشتم معاً تشاركتم الأفراح والأتراح، لا تستجب لعصبية جاهلية قد تطالك يوماً ما، مثلما تطاله اليوم، وتذكر أن هناك دائماً من ينظر لك على أنك كافر، وإن كنت تريد «الفزعة» بمعنها الرائع الذي

تستجيب لعصبية جاهلية قد تطالك يومًا ما، مثلما تطاله اليوم، وتذكر أن هناك دائمًا من ينظر إليك على أنك كافر، وإن كنت تريد «الفزعة» فلتكن بمعناها الإنساني الذي ارتبط بالنجدة والوقوف مع الملهوف والإنسان قبل كل شيء، فلتكن في الخير، وتذكر أن نصرة أخيك ظالماً تكون في نهيه عن الظلم لا في مزيد من التحريض.

في سورية اليوم نحن أمام تحدي، هل سنستطيع قطع الطريق على التعصب لـ«هويات قاتلة»؟  هل من عقلاء يسعون لبناء دولة المواطنة لا دولة الخوف؟