ماذا يحدث لك وأنت في كون رمضان الفسيح؟ ربما يبدو هذا السؤال غريباً، وربما يبدو مباغتاً، ولكن من يعش اللحظة الزمانية يشعر أنه انتقل من زمن إلى زمن أو أنه سافر من قارة إلى أخرى، لأن المشاعر تصبح مثل كرة تتدحرج منطقة إلى أخرى، وينتابك شعور لا يمكن تفسيره بكلمات بسيطة في مقال عابر على صفحات جريدة يومية. إحساس يشملك أرهف من نسمة صباحية، مشهد خیالي طاغ يسحرك ويطويك في عباءته، حيث تغيب أنت واقعك لتحلق في فضاءات أشف من الشهد، وتتراءى لك صور، ووجوه ربما توارت لبعض الوقت من زمنك. ولكن الآن تبرز كأنها في لحظاتك العفوية، كأنها في فجر أيامك، تختال باسمة، مشرقة وتكون أنت كالمسافر في غضون تضاريس معشوشبة بأحلام ثرة، ندية، لدنة، تلهمك بحالة نيرفانية الوفكرت في أيام السنة المعتادة أن تمارس هذا الطقس لما تمكنت، لأن الأشياء في رمضان تأتي بتلقائية كأنها جدول الماء الذاهب إلى العشب.
قبل زمن الفطور بساعة تقريباً، عندما تتأمل وجوه الأطفال، وتمعن النظر في بريق عيونهم، تلمس شيئاً ما يحرك في داخلك مشاعر هشة، تتراكم بين ضلوعك كأنها زجاج مرايا غير مؤطر، ابتساماتهم، لهفهم، ولعهم بإمساك الأواني المملوءة بأصناف الطعام، ورائحة الأكلات الساخنة التي تحرك مواجع الجوع في أحشائهم. كل ذلك يجعلك تعيش حالة نفسية تقلب فيك سجادة التاريخ، والذاكرة تسحب خيوط عودها الأبدي، وتفتح الصندوق الأسود لتكشف عن أسرار وخبايا، وربما أحافير طواها الزمن ولكن في هذه اللحظات تقفز من الصندوق، وتتربع أمام عينيك مرصعة بالبريق المشع، فيخلبك ذلك الميلاد الجديد لصور ظننت أنها توارت، وربما تلاشت، ولكن بقوة جاذبية رمضان تجد نفسك تحت زحف الصور، والوجوه منثالاً مثل حبات المطر تهفو إلى ذلك الحضور المهيب، وعيناك ريانتان بالبلل.
في رمضان تسجل طفولتك حضوراً راسخاً، والذاكرة تنشط بقوة، تحملك إلى مناطق خضراء في حياتك تستدعي تلك الصغيرة التي قابلتها عند طرف، وجادة مقفرة، تتذكر تلك اليد التي مدت إليك بخجل لتعطيك ما فاض به مطبخ الأهل وما جادت به الروح الندية، الله تتذكر تلك الصورة السيريالية المهيبة التي أشعلت فيك موقد الحرقات، كما أدارت عقارب الساعة إلى مراحل ما قبل الصفاء.
تتذكر وأنت المعني بالذاكرة أكثر من أي شيء آخر، وتسوط وتحرك فنجان قهوتك لعل وعسى تستقرئ ما في القاع لتری کیف غصت أنت في محيط العمر، مسروقاً مثل خاتم ضيعته البلاهة.
المصدر: الاتحاد