كاتب إماراتي
مرت علينا أوقات جميلة ومسلية ومفيدة ومتجددة، تلك التي كانت قبل بدء ساعات الدوام الحقيقي، كانت تعد بالدقائق في حساب ساعات أيدينا، ولكنها كانت طويلة وممتدة حسب فائدتها وغنائها بإثراء شخصياتنا، وتجديد ذاكرتنا ونشاطنا اليومي، هي الأوقات الصباحية التي نقتنص فيها الأحاديث المختلفة مع فنجان القهوة أو كأس الشاي بالحليب، ياه.. كم أحن لها الآن، وأتذكر كم كانت ممتعة في أماكن مختلفة، ومع أصدقاء وزملاء مختلفين، بعضهم تركناه في مكاتب الوظيفة، بعضهم تركنا مع تقلبات الأمكنة والوظائف، والبعض الآخر شطت به الحياة في مختلف دروبها، ولم يبق -إنْ تذكروا- إلا تلك اللحظات الصباحية التي كان يجمعنا فيها فنجان القهوة وكأس الشاي بالحليب. في تلك اللحظات التي قد تمتد لساعة من اليقظة الحقيقية، كانت تجنح بِنَا السياسة والثقافة وأحداث الحياة، وكرة القدم، وتعليقات كثيرة على الجيل الطالع، وحنين حقيقي لزمننا الذي نعده الأنقى، يمكن أن نطرح فيها كتاباً جديداً أو كتاباً قديماً منسياً، في بعض أماكن العمل، وحين يكون المقابل غير عادي ومتميزاً في تجربته وتنوع قراءاته، نظفر بشيء من المعرفة الغائبة أو المسكوت عنها، قد يأخذنا الشاعر بن حريز أو الهاملي ذات صباح، وتكون المفردة العامية حاضرة وبقوة، ومبهجة للقلب، ومتعطشة لها الذاكرة، ربما في يوم آخر يكون هناك نقاش بشأن فيلم جديد، ويقدم الكثير، كانت تلك الأوقات لا تتجاوز الساعة كل يوم، ولكن لها طعم من السعادة، تجعل يوم العمل ملوناً ويسيراً، كانت تخرج أفكاراً مفيدة شخصياً، وقيمة لتطوير روح العمل.
لو أتذكر تلك الوجوه الصباحية في الأماكن المختلفة في الوظائف المتعددة، فربما أثقل على القلب، وأجهد الذاكرة، كانوا في مجملهم إخوة حقيقيين، وأصدقاء أعزاء وزملاء أوفياء، لم ندع للخلاف أن يحل يوماً بيننا، كانت مساحة وفضاء رحباً للتقاطع والالتقاء، والاختلاف بود ومحبة.
لم تكن أيام تلك الأوقات كلها للجد، والتفكير العميق، والأسئلة الكونية، بل كانت كثيراً ما تتخللها أحاديث خارجة عن الأدب أو من صميم الأدب المكشوف، والنكات الإيحائية، لكنها كانت لغة ترقى للثقافة، وتترفع عن لهجة الشارع، وتحلق بالنفس دهشة ومرحاً.
لقد مرت على بعض تلك الأوقات ثلاثون عاماً ويزيد، وكأنها كانت بالأمس القريب، الصغير كبر، والموظف تقاعد، والدنيا تغيرت، والأحوال تبدلت، ونحن ما عدنا نشرب شاي الحليب بالسكر، نخاف من السكر، ونتذخر بتلك الحبة التي لها طعم الطباشير، وفنجان القهوة نتحسس قبله حبة الضغط الصغيرة البيضاء، وحدها الأحاديث ازدادت عمقاً وحكمة، والشعر الأبيض زادت رقعته، ويحزننا إنْ غاب واحد منا، وظل كرسيه فارغاً إلا من الذاكرة أو غدرت بواحدنا الحياة دون أن يكمل أحلامه الهاربة.
هل كانت تلك الدائرة الصباحية الصغيرة كلها خير، لا لم تكن، فالملائكة عادة لا يسكنون الأرض، فكان ملح الحديث بعضاً من سير الآخرين، وبعضاً من الغمطة لا الغبطة الوظيفية، وكثيراً ما تدور حكايات حول المدراء المختلفين، كشأن الغيرة الوظيفية، وتخفيف ضغوطات العمل، وتلك الأوامر التي قد تشبه ثقل الرحى على الصدر، لكنها كانت تنفسية، لا يقصد بها الشر ولا الضرر، لذا كان معظمنا وحينما تنتهي تلك الجلسة الصباحية يخرج تسبقه الاستغفارات الكثيرة مع ضحكة في الداخل يكتم خروجها!
المصدر: الاتحاد