لمجرد الحديث عن استقبال الشهر الكريم، تقفز صور ومشاهد، ويطرق الآذان صوت المسحراتي تحت جنح الليل، وبين الأزقة الساكنة، وقبل بزوغ الفجر. عوالم، وطقوس، وحكايات وأحلام، ورائحة الخبز، بأنواعه المختلفة، ودخان الهريس، والخبيص، وملمس الأطباق الخزفية، المغسولة بدهن الأيادي المعروقة، وصباحات طفولية ناعسة، ولم تزل تفرك الجفون، بغية مطاردة أجنحة النوم.
هذه لوحات فنية عفوية فطرية، بثياب الليل، مضمخاً برائحة النوم، وتعب العيون إثر الاستيقاظ المزعج، ولكن لا تمر دقائق حتى تتحرك المشاعر في نشاط، ودأب، ومناكفات بين الصغار، وتسابقهم على قطف ثمرات جهد الأمهات، وبينما تأتلف الأسر على دعوات وتسابيح الرجال ذوي اللحى الممزوجة بماء الوضوء، يصرخ الرجل الأسمر الجميل بصوت أشبه بالمناجاة، وتتبعه أصوات صغار، وكأنها الصدى، لرنات الطبل، اليوم وأنت تتابع النشرات الإعلانية، عن حزمة المسلسلات، والبرامج الفنية، والثقافية، تشعر بمدى فقر الذهنية في زمن كانت الحياة الثقافية فيه مجرد طبق يستدير على مادة وحيدة، وهي المجالس الرمضانية ما بعد الإفطار، وما يرافقها من حضور جميل لقراءات، وقصص دينية، يتلوها ذوو الخبرة من رجال القرية. اليوم المائدة الرمضانية الثقافية ثرية ودسمة، ووفيرة التنويعات، من النشاطات الدينية والثقافية والفنية، مما يجعل هذا الشهر ليس شهر بكائيات، وظلام دامس يخيم على الرؤوس حتى شروق الشمس، ليبدأ هذا القرص الذهبي في تلوين الحياة، بمعدن الانتشار في أرض الله. اليوم الليل لا ينام، والليل مثل لغة حديثة، غيرت قواعد معجمها، واستبدلت أدوات التشكيل القديمة بجديد يلائم الزمن ومتطلباته، واحتياجات الإنسان، لكي يعيش الزمن بصور زاهية، وبريق يشع كأنه الشمس، تدير الليل كما هي إدارتها النهار. حلم.. ما يحدث في الحياة حلم، وقفزة ديناميكية رهيبة، تجعل المزاج العام وكأنه الغيمة التي لونت شالها الفضي بلون النجوم، واستعاضت عن صمت الليل، ومداهماته الحالكة، بموجة من لوحات فنية من إبداعات الإنسان الحديث، إنسان يتعامل مع المقدس بصورة شفافة، رقيقة، أرق من عيون الطير. يصوم لله تعالى بقلب مطمئن مستقر آمن، ولا امتحان إلا امتحان الضمير المنتعش بأيام خضراء، مكسوة بأحلام الغد، وليس بكوابيس (أم الدويس) و(بابا درياه)، وغيرهما من كوابيس كواليس قصص الليل البهيم. في شهر رمضان في زمان الإشراقة الحضارية التي تتمتع بها الإمارات، وتزخر بها مؤسساتها الثقافية والدينية، تشعر أنك تنتقل من بستان شعر إلى حديقة نثر، ولا يتوقف المعين، لأن الذاكرة تنعم بفيض من أحلام اليقظة، التي تسرج خيول الطموحات، إلى حيث تكمن الحياة السعيدة، وتزدهر بلادنا، بالحب الروحاني في شهر النفوس المخضبة بحناء التفاؤل، والآمال العريضة.
المصدر: الاتحاد