يدخل الأب البيت، يتلفت يمنة ويسرة، يسأل عن طفله الصغير، فيقال له إنه في غرفته يقرأ صفحات الهاتف، يذهب الأب إلى غرفته، يبحث عن الزوجة، فتجيبه الخادمة إنها ذهبت إلى السوق مع جارتها، يخرج من غرفته، ويجلس في صالة الجلوس، يقابل التلفاز، ويدير الريموت حول محطات مختلفة، فلا يجد ما يلفت النظر، سوى كوارث الحروب، يطفئ التلفاز، ويستدير ناحية هاتفه، يقلّب عينيه في المواقع، يسمع ويرى ما لا يهم، ولا يفيد، ولكنه لا يرفع رأسه لأنه يود أن يقتل الوقت كما يدعي، ويستمر في الهمهمة، والغمغمة، ويضحك أحياناً، ويسخر في أحيان أخرى، ويحك صدغه متململاً، ضجراً، والساعات تمر، وربة البيت في الخارج والطفل في غياب تام عن عيني والده، والأيام تكرر روايتها، وتعيد سيرتها، والأسرة التي اتفق مع شريكة حياته أن يجعلاها خلية نحل تدر شهد التآلف، والعطف والدفء أصبحت مثل زجاجات مهشمة، متناثرة هنا وهناك دون أن يجبر كسرها وعي، ولا اهتمام، لأن عجلات الزمن طغت، فداست، وكسرت، فتناثر الزجاج في خواء المشاعر.
أصبح البيت مثل خيمة قديمة هجرها أهلها، إلى مكان آخر، ولكن المكان غير معلوم التضاريس، ولا مفهوم الأحاسيس، وعندما تأوي الزوجة إلى منزلها، تجد الزوج قد غادر مثواه إلى مكان غير معلوم، فربما ذهب إلى المقهى، ليفرج الضيق عند الأصدقاء، أو ربما ضرب برأسه في بطحاء العالم، أو لاذ إلى ساحل بحري مسوّر بأشجار النخيل، وغيرها من الأعشاب الخضراء، ظناً منه أن للخضرة سحر البهجة، ولكنه حتى وهو في الأماكن التي يتوخى فيها الراحة، يشعر بالغربة، وينتابه الحنين إلى منزل كان في الحلم بستان فراشات، وزهور.
يظل المسكين يفكر في ما قالته الزوجة قبل الزواج وعبر الهاتف المحمول، ولكنه كمن يهيم في صحراء قيل له إنها تحوي نبعاً عذباً، فيعود الرجل أدراجه إلى المأوى، فيجد الزوجة غافية على سرير المودة من دون قلب، كما ويعثر على طفله وقد تمدد على فرش اللهو وبجانبه يجثم هاتفه النقال الأكبر من رأسه الصغير، يعض الرجل شفتيه، ويهز رأسه، ويدبر مكسوراً محطم القلب، ثم يرمي بجسده بالقرب من جثة الزوجة الهامدة، ويقول في نفسه: «بنام يمكن باكر أرتاح»، ويخيّم عليه الليل، كما تهيمن عليه أفكاره السوداوية، ولا شيء يوقظه صباحاً سوى حلم مفزع يقول له انهض، فقد سرقك النوم من وظيفتك.
المصدر: الاتحاد