كاتب وصحفي سعودي
جاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أمس بعد مرور 46 يوماً على توليه حكم المملكة العربية السعودية، في مضامين واضحة ومباشرة، وموجّهة إلى المواطنين الذين خاطبهم حيناً بالمواطنين والمواطنات، وتارة بـ«إخواني وأخواتي»، وهي صيغ للتعبير عن التساوي، وإن كان ملكاً عليهم، وأحياناً بـ«أبنائي وبناتي» في نبرة أبوية.
وركّزت الكلمة على القضايا ذات الأولوية والأهمية في ما يتعلق بالسياستين الداخلية والخارجية. ويمكنني أن أوجز ما تضمنته الكلمة حول الشؤون الداخلية في ما يأتي:
1. التأكيد على أن العدالة حق للجميع، وأن الأمر يتطلب إتاحة الفرصة للمواطنين لتحقيق تطلعاتهم المشروعة.
2. عدم التفريق بين مواطن وآخر، أو منطقة وأخرى، وتوجيه أمراء المناطق باستقبال المواطنين، ورفع أفكارهم ومقترحاتهم، وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم والتيسير عليهم، والتشديد على محاسبة المقصرين، وأنه لن يقبل أي تهاون في خدمة المواطن «الذي هو محور اهتمامه».
3. رفض التصنيفات المسمومة الضارة بالوحدة الوطنية، والجالبة للفرقة، انطلاقاً من أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات.
4. دعوة الإعلام إلى أن يكون وسيلة للتآلف، لا الإثارة وإذكاء الفرقة.
5. تقديره لدور المواطن السعودي واستشعاره المسؤولية، ووقوفه سداً منيعاً أمام الحاقدين والطامعين، فالأمن مسؤولية الجميع.
6. ذكر بوضوح أن ما تمر به أسواق البترول ستكون له تأثيراته في الداخل، لكن الحكومة ستسعى إلى الحد منها.
7. تأكيد العزم على وضع حلول عملية عاجلة تكفل توفير السكن الملائم للمواطن، لعلمه أن هذا الملف سبب مشكلات داخلية كثيرة في دولة غنية، لا يزال نصف أفراد شعبها لا يملكون مساكن.
8. الاستمرار في تطوير التعليم بما يجعل مخرجاته تتوافق مع خطط التنمية وسوق العمل، وإيجاد فرص عمل للمواطنين، خصوصاً المبتعثين والخريجين الذين أنفقت الدولة على تعليمهم بسخاء، داخل المملكة وخارجها.
9. واجه رجال الأعمال بما يجب أن يدركوه جيداً، باعتبارهم جزءاً من نسيج الوطن الذي قدم إليهم الكثير من الامتيازات والتسهيلات، ما يتطلب منهم المشاركة الفاعلة في التوظيف والخدمات الاجتماعية، وهي حقاً المبادرات التي ينبغي أن يقدم عليها القطاع الخاص في بلاد يعد اقتصادها أحد أكبر الاقتصادات في العالم والأكبر في المنطقة.
10. خاطب العسكريين ووصفهم بـ«البواسل»، وبأنهم محل القلب من الجسد وحماة الوطن، مشدداً على قربهم منه، وأنهم محل رعايته واهتمامه، وكل أبناء الوطن يقدّرون جهودهم وعملهم.
أما في ما يتعلق بحديثه عن السياسة الخارجية للمملكة، فكان لافتاً ومثيراً للاهتمام، إذ تطرق خادم الحرمين للقضايا المحورية الآتية:
1. شدد على أن بلاده ستستمر في الالتزام بالمعاهدات والاتفاقات والمواثيق الدولية، واحترام السيادة، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، والعكس صحيح.
2. المضي نحو تحقيق التضامن العربي والإسلامي، عبر تنقية الأجواء ومواجهة التحديات، والسعي لنيل الشعب الفلسطيني لحقوقه.
3. العمل على تحقيق الأمن والاستقرار وترسيخ مبدأ العدالة والسلام عالمياً.
4. الالتزام بالحوار، ورفض استخدام القوة والعنف.
5. التأكيد على أن المملكة جزء من العالم، وستسهم بفاعلية في وضع الحلول للقضايا الملحة مع المنظمات الدولية.
وبقدر ما جدّد خادم الحرمين الشريفين تأكيده على ثقل الأمانة وعظم المسؤولية، بعد خطابه الأول، ها هو يشدّد مجدداً على الوزراء والمسؤولين بأنه لن يتهاون تجاه كل من يتقاعس عن واجباته ومسؤولياته في خدمة المواطن، خصوصاً تأكيده لهم بـ«أننا جميعاً في خدمة المواطن»، لا فرق في ذلك بين موظف ووزير ومسؤول وملك، فهو استحقاق الواجب، وأهم مسؤوليات القيادة الاهتمام بشؤون الشعب. كما أنه أشرك المواطن في المسؤولية تحقيقاً للمواطنة وصدق الانتماء، والحرية وحدودها، وعدم تعطيل مسيرة التنمية الوطنية، والتصدي للفكر الإرهابي الساعي لتدمير الوطن ومنجزاته ومكتسباته.
لقد تحدث الملك سلمان بهموم المواطن، وهو العارف بها منذ أن تولى إمارة الرياض قبل 60 عاماً، بعد مرور شهر ونصف الشهر على توليه الحكم، ولا شك في أنه ينتظر من الوزراء القيام بواجباتهم، بكل جدية، والعمل لما فيه مصلحة الوطن والمواطن، وفق برامج عملية قابلة للتنفيذ وتحظى بثقته، ويتوقع منها نتائج عملية ملموسة تنعكس خيراً على المواطن، وتعزيزاً لمسيرة الوطن ومكانته بين الأمم والشعوب.
الكلمة شاملة وتستحق أن تُقرأ بعين ثاقبة من المواطن والمسؤول في آنٍ معاً. ونتذكر أهميتها في حضرة الوطن، وفي ظل التحديات والأزمات الراهنة من حولنا. ولا بد من القول إن الملك سلمان بن عبدالعزيز كان بدأ عهده بمكافأة موظفي الدولة وغيرهم من القطاعات بصرف راتب شهرين، وإطلاق السجناء المعسرين، وإعادة تشكيل حكومته بطريقة عملية تضمن تنفيذ المهمات التي يرجوها لخدمة وطنه ومواطنيه. وها هو بعد 46 يوماً من تحمله مسؤوليات القيادة والحكم، يطرح بوضوح ملامح سياسته الداخلية والخارجية، في برنامج محدد، وينتظر من الوزراء والمسؤولين تنفيذها بما لا يؤخر الأولويات، وبما لا يمثل تفريطاً في تماسك الوطن ووحدة بنيه. ولعل أبلغ ما يمكن أن يستدل به على طموح خادم الحرمين الشريفين تأكيده على المضي في التحديث والتطوير، وجعل الحكومة في خدمة الشعب، وقوة أساسية لحل المشكلات المزمنة التي ظلت تعوق تحقيق التطلعات التي يصبو إليها المواطن، والحفاظ على الثوابت التي بنيت عليها المملكة منذ تأسيسها. وهي – كما أرى – طموحات كبيرة لملك عظيم، ولا بد من أن نتشارك جميعنا في إعانته وإعانة الدولة على تحقيقها.
لقد شملت كلمة خادم الحرمين الشريفين جميع فئات المواطنين وقطاعاتهم، حتى الطلاب كان لهم حضور، وكذلك رجال الأعمال والقطاعات العسكرية، فكأنما أراد الملك سلمان أن يقول لكل فئة من مواطنيه إنكم جزء من نسيج الوطن.
ولا شك في أن الملك سلمان عرض بشفافية شديدة رؤيته لمملكة تنتفي فيها الاختلافات، ودواعي الفرقة التي تنجم عادة عن التصنيفات والقبلية والعصبية. وقال قولاً بليغاً «إن أبناء الوطن متساوون في الحقوق الواجبات».
والواقع أن السياسة الخارجية التي عرضها خادم الحرمين الشريفين في كلمته تؤكد أن السعودية لن تنكفئ على نفسها مهما كانت تحديات المنطقة والعالم، بل تمد يدها بيضاء لدول العالم ومنظماته الأممية للإسهام في حل القضايا التي تهدد البيئة والتنمية البشرية والتنمية المستدامة، والقضاء على الإرهاب.
ما جاء في كلمة الملك سلمان عن أسواق النفط العالمية وما تشهده من انخفاض في الأسعار يمثل تطميناً قوياً لأبناء الوطن الذين تغرقهم تحليلات الصحف العالمية في دوامة مخاوف. ومهما كان شأن تلك الأوضاع، ستستمر عمليات الاستكشاف، بما يعنيه ذلك من استثمارات في الطاقة، ووظائف لعدد أكبر من المواطنين، وتمكين المملكة من القيام بدورها كأكبر مصدِّر للنفط في العالم.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jameel-Al-Doiabi/