كم من وردة تفتحت، وكم من دمعة ذرفت، وكم من ابتسامة افترشت شرشفها على المباسم، وكم من كف امتدت كي تلامس جدائل بلون الليل منسحبة حتى المنكبين، وكم من عباءة تعطرت بزجاجة الصباح البهي، وكم من روح خفقت متذكرة أياماً خوالي كانت تحمل في الطيات مشاهد لمستقبل وصوراً بلون البحر، وكم من مشاعر تدفقت كأنها الجداول تسبح على تراب مخيلة ذاقت طعم الألفة في أيام كانت فيها العلاقة مع المدرسة كما هي العلاقة مع محاريب العبادة.
في هذا اليوم تستدعي الذاكرة، ونستدرج الماضي ندعوه للحضور حالاً، كي يحكي لنا قصة اليوم الأول في زمن كانت فيه المدرسة، ساحة اندماج مع قميص المدرسة الأبيض، والبنطال الرمادي، وربما يكون هذا الملبس أضيق، أو أوسع من المقاس الطبيعي لجسم الطالب، ولكن كانت له فرحته المميزة، كانت له لهفته وهو يمسك على الأجساد الصغيرة ببشرى غد أكثر إشراقاً، وأكثر طموحات، ولم يكن ذلك اليوم في زمام العين، وإنما كان مجرد حلم، واليوم عندما نطالع دفتر الأيام، عندما نقلب الصفحات ونقرأ عن طبيب أبدع في فن الجراحة، أو مهندس برع في اختراع طريقة لبناء جسر يربط بين ضفتين في مدينة من مدننا العامرة بأهلها وعشاقها، والقائمة تطول لمبدعين كانوا صغاراً بقمصان مترهلة، واليوم يعكفون على الحاضر، بعلامات مميزة في درجاتهم العالية، وهم يطرقون أبواب الحياة بأفئدة منشرحة على العالم، وعقول تتفتق بمخرجات عامية مذهلة.
اليوم ننظر إلى الصغار وهم يتأبطون حقائب المدرسة، نشعر بأن الزمن مثل الدائرة، لا يذهب تصاعدياً كما قال هيجل، بل هو يستدير على الحياة مثل إطار عجلة، ويأخذ بمتسلقي درجات المستقبل إلى حيث تكمن الطموحات، هناك هو المستقبل، هناك الفرح القادم، وقد سددت القيادة الرشيدة الخطى لكل ذات وعي بأهمية أن يصل، وضرورة أن يجتهد، وحقيقة أن ينجز ما يريد، بالجد، والإصرار، والتصميم على تحقيق الأمل، وتأكيد الوجود.
اليوم عندما نعيد فتح صفحات الكتاب القديم، نوقن تماماً لماذا كان المدرس يفرك عينيه كدراً، عندما يفاجأ بأحد طلابه لم يحل الواجب، ولم يقرأ قصيدة فهد العسكر، المقررة في المنهج.
اليوم نتذكر لماذا لم ينزعج الأب عندما يسمع عن المدرس الذي وبخ ابنه بعنف، بل يبتسم، والغبطة تملأ قلبه من دون أن يطلقها صراحة.
اليوم عندما نرى هذه القافلة من مبدعي رجالات البلد في مختلف المجالات، نشعر بالفخر، لأن العلم وحده طريق التقدم، والعلم وحده، أداة البناء، والتشييد.
المصدر: الاتحاد