أطل على السماء، فأجدها تراقب رمش العين، وترصد الخفقات، والدفقات، الشهقات، والزفرات، والآهات، والأنات، وصيحة القلب وهو يدنو من غيمة تعانق شفة المكان، وفي الأعماق ترتل الروح وهجاً، وتستمد من خافق الأرض ما يثري، ويغري، وتسير الدماء في الجسد، محتشدة عند شريان، ووريد، هناك أقرأ ما في صفحات اللحظة، من فرحة بمجيء الشتاء وهو يطوي سجادة الصيف، ويلملم شتات خريف حالك، ويبتسم لكل من يشفه نسيم أبرد من عيني من كف امرأة أناخت بعير مشاعرها، واستيقظت على رحيل ركاب العمر، ولكن في خيمة القلب بقيت هناك مساحات واسعة، ليعيون بشر مروا من هناك، وتركوا بصمات أرواحهم تلهو في النياط، وتعبث في الأشجان كأنها أنامل الطفولة.
أجلس في الليل البهيم، كأنني الوحيد، في حضور الآخرين، أرتب أبجدية الصور من حولي، وهناك صور تبدو مثل أمثولة قديمة، مثل أيقونة وضعت عند طرف القلب، أجلس وأقرأ في الوجوه من حولي، ولا أرى سوى تماثيل لواقع إنساني بدأ يختزل العمر، ويذوب في فنجان قهوة باردة، ولا يبقى في القاع غير حثالة رمادية تثير الفزع، لأنني دائماً ما أتحاشى الحثالة، ودائماً ما أتفادى الوقوع في صدام من البقايا، وعندما تحضر الغيمة، وتمرغ جسدها في الهواء الرطب، أشعر بأنني أغادر المكان أو أنني أسرق جناح طائر نائم في السدرة التي تتسمر بالقرب مني، وأطير.. أطير فرحاً، لأن الغيمة هي الوحيدة التي لديها ماء يبلل الريق، لديها سحر الرضاب، وعندما تسخو، تكون في الحياة ملاذاً، وتكون تعويذة، وحرزاً، تكون طلسماً يحميك من الجفاف العاطفي، ويطوقك بترنيمة تجعلك مثل الغصن، تغني للحب، وتنشد للحياة، وترفع الصوت جلياً لعل، وعسى يسمعك من به صمم.
أنت تحت الغيمة، أنت تسرد قصة الخلق منذ أن كان سوفوكليس يسرد مسرحيته التراجيدية، ويرتب مشاعر اليونانيين الذين أتعبتهم فلسفة السفسطة، جدلاً، وأنهكتهم الحروب الطائفية.
في الليل يبدو كل شيء رمادياً، ما عدا وجه المرأة العاشقة، أنها تومض بمشاعر، تتدفق من بين الجفنين، كأنها القنديل في زاوية غرفة مظلمة.
في الليل، يحلو الحديث حتى مع القطة السابتة تحت جذع الشجرة، لأن في الليل تتلاشى الفروق بين الكائنات.
في الليل الإمارات تتحول إلى نجمة عملاقة مضاءة بأحلام ناسها الطيبين.
المصدر: الاتحاد