محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
في الفضاء الكتابي (الورقي، وخصوصاً الافتراضي) تندلع بين عدد من أبناء دول مجلس التعاون، وآخرون يبدون الود الظاهري، موجة من «العنف اللفظي» من مناصرين لهذا الطرف في الأزمة، أو ذلك الطرف، فيما عرف الآن بـ«الأزمة القطرية»، وكلما طالت الأزمة، زاد ذلك العنف اللفظي، واستخدمت فيه أدوات وتعابير ومفردات، في رأي كثيرين، غير مطلوبة ولا مرغوبة بين الأشقاء. بعد الفترة الماضية التي تسير في شهرها الثالث، من الواجب الدخول اليوم في نقاش يرمي إلى تطوير أفكار تضيء العتمة في مساحات تفكيرنا في هذه الأزمة بروية، وبعيداً عن الانفعال، وقد تؤهل لهبوط آمن.
ليس من العدل أبداً، أن نعتبر أن تلك الموجة من الحوار الحاد (الورقي والافتراضي) غير مبررة في البداية، وقد لفت الجميع آثار الانفجار الفجائي للأزمة، فالبعض كان يرى أن ما يدافع عنه قضية لا يحتمل التنازل عنها أو تركها دون التعبير عن وجهة نظر قاطعة، إلا أن تلك الموجة من النقد أن تبقى وتستمر بعد المفاجأة الأولى وتحمل الكثير من «الكراهية الحادة» لهذا الطرف أو ذاك، هو الأمر غير المبرر، وقد اتضح للجميع حدود الأزمة وتضاريسها، وهي تضاريس سياسية، نقلُها إلى الفضاء الاجتماعي فيه مخاطرة على تماسك النسيج الخليجي على المدى الأطول. والظاهر أنه كلما قلت ثقافة المتدخل، أو بعده عن الفهم العاقل للحوار، أو حتى عن فهم صلب الإشكال، غلظت الكلمات عنده، وعظمت التعبيرات السلبية، وزاد من خلط الأوراق، مما يؤدي إلى ارتفاع هرم الكراهية لدى العامة، يسمم الأجواء ويعوّق الحلول. ربما بعض أولئك المتدخلين مزايدون، أو يتحدثون على قدر عقولهم، يرفدهم البعض بمعلومات، إما مغلوطة أو حتى غير حقيقية، إلا أن النتيجة النهائية هي تسميم الجو العام، على افتراض خاطئ أن تلك الموجة من العنف اللفظي سوف تقوم بحل الإشكال المطروح، هي في الحقيقة تساهم في تعقيده لا حله، وتضيف حطباً إلى النار المشتعلة، يتلقاها العامة بعاطفة، ويزداد معها التخندق في هذا المكان أو ذاك.
حتى ننزع الكراهية لو قليلاً أو نخف منها، نعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، دون تهوين أو تعظيم، الأزمة في صلبها «سياسية» هي خلاف سياسي، نعم أساسي وخطير، وقد وتر المنطقة بأسرها، ولكنه ليس «احتلالاً» ولا حتى «تهديداً باحتلال»، هي سياسية، ثقيلة نعم، ولكن سياسية، وما دامت كذلك، فإن علاجها سياسي يجب البحث عنه بصبر وأناة.
أول ما يتوجب البحث عنه في مثل هذه الأزمة، هو إيجاد وسيط قريب من أطراف الأزمة، وله صدقية بين الأطراف وأن يكون «مقبولاً ومعقولاً»، وليس أكثر من الكويت أن تقوم بهذا الدور، لأنها أول من يعرف أن بقاء وتطوير مجلس التعاون أصبح ضرورة حياتية لكل قاطنيه، ولأن التهديدات حول المنطقة واحدة، والنجاة منها لا تتيسر إلا من خلال رص الصفوف، وليس أكثر من حرص المملكة العربية السعودية على هذا الكيان، وأستأذن الأخ الكبير عبد الله بشارة في النقل عنه، وكان أول أمين عام للمجلس، وأطول فترة له، ينقل عن وصية عن الملك المرحوم – طيب الله ثراه – فهد بن عبد العزيز، قال أكثر من مرة، كما ينقل السيد بشارة: «نحن ست دول، سوف نسير لتحقيق الأهداف لهذا المجلس على وقع خطى أقلنا قدرة على المسير»، في هذا القول حكمة بليغة، وفهم عميق للعلاقات الخاصة بين دول مجلس التعاون وحساسيتها، مقروناً بحكمة متوارثة للأسرة الحاكمة السعودية، انحدرت من الوالد المؤسس إلى الأبناء، وهي حكمة زادت لدى الملك سلمان بن عبد العزيز، بسبب تاريخ عمله الطويل في الشأن العام، وفهمه لأحوال المنطقة وأهلها، عدا عن مكانة ودور المملكة العربية السعودية، التي أرى أنها عمود الخيمة الخليجي.
وساطة الكويت لا تأتي من فراغ، فقد واكب أمير الكويت الشيح صباح الأحمد، مسيرة التعاون الخليجي منذ فكرتها الأولى، وخزن خبرة سياسية ودبلوماسية طويلة، كما وجدنا أن دولاً كثيرة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها تعتبر أن وساطة الكويت هي ركيزة في الوصول إلى حل ما في وقت ما، كما أن الإصرار على أن يبقى حل الأزمة في البيت الخليجي، له مردوده الإيجابي في المستقبل، خصوصاً أنه على مقلب آخر أن العالم يمر بمرحلة غير مستقرة، وقد تتعاظم المخاوف مع قلق عالمي واضح على الأمن الدولي، وتغيرات ضخمة في داخل الدول الكبرى، تعود معه البلدان تلك إلى قشرتها الوطنية، فليس لهذه الدول لا الرغبة ولا الوسائل للتدخل النشط (خارج الدبلوماسية المعهودة) في قضايا لها طابع إقليمي بعيداً عن حدودها. وفي مثل هذا الملفات، بجانب أهمية الوساطة المحلية العارفة، هناك خطوات تتخذ على مراحل، منها نزع الفتيل عن تضخيم الخلاف، من خلال تقليل شراهة وسائل الإعلام في النفخ في الأزمة، وتقليب المواجع، ووضع السكين في الجرح، أو إعادة إنتاج مواقف الفاعلين والبعد عن الموضوعية، التي هي في بعض مثل هذه الملفات ضارة وغير نافعة، وإن بدت للبعض ولفترة قصيرة أنها خادمة للغرض، فالمجتمع الخليجي أو على الأقل نخبه الواعية، لم تعد تؤثر فيها تلك «الدعاية» غير الموضوعية، وإن بدا الحماس لدى البعض في الاصطفاف والتحزب، هو إما من قلة الخبرة أو قلة الفهم أو الاثنين معاً، أو ربما التكسب السياسي، فمن خلال متابعة معقولة لوسائل التواصل الاجتماعي، يلاحظ المراقب أن «التغريدة» المعقولة والمتوازنة في موضوع الأزمة هي التي تحظى بقبول أوسع إيجابي بين الجمهور الخليجي، وقد يرى البعض أن «تغريدات» حادة في الكلام والمواقف من البعض، تتابع بكثرة على وسائل الاتصال الاجتماعي، وهذا صحيح، لأن الإنسان بطبعه جُبل على «حب الاستطلاع» أولاً، وثانياً «السعي وراء الإثارة»، ولكن ليس الاقتناع بما قيل بالضرورة! في هذا الملف الشائك (الأزمة القطرية) يجب ألا نقلل من ثقل التباينات بل هواجس ترقى إلى مخاوف بين أطرف الأزمة، وهي تباينات حادة، جعلت دول المقاطعة تتجه إلى «الكي كآخر العلاج» أي المقاطعة، إلا أن الملف يجب أن تعاد الزيارة إليه بجدية من خلال «فصل العاجل عن الآجل»، وهو أمر بدأت معالمه تظهر في بعض التصريحات العلنية، وبعض الإشارات الدبلوماسية، وربما أصبح الجميع الآن يعرف أن استمرار الأزمة في شكلها الحالي، يعني خسارة محققة لأبناء الإقليم ككل، وعلى رأس تلك الخسارة تسهيل التدخل من قوى إقليمية، يسرها إلقاء التراب في تروس مجلس التعاون لتعويقه.
نعود من جديد بعد ذلك إلى موضوع الكراهية، ربما بعضها سوف يبقى عالقاً في النفوس بعد هذه الأزمة الحادة، ولكن كثيراً منها في الغالب سوف يكون سطحياً، يتلاشى مع الوقت، وذلك بسبب حقيقة ثابتة يعرفها كثيرون، بأن مجتمع الخليج، مترابط في الجغرافيا والتاريخ معاً، واليوم تجمعه مصالح مشتركة، وقد مر في السابق بتوترات، حتى قبل الدولة الحديثة، ومن ثم أصبحت «الدولة الوطنية» وريثة بعض التباينات، تغلب عليها الجيل الجديد من الحكام بكفاءة مشهودة، ما يفعله التاريخ والجغرافيا والمصالح معاً من تَسانُد، يبقى عصياً على التفكيك، والتاريخ والجغرافيا لا يمكن أن يغيرا بسبب (رؤى نسبية) سياسية، قد يتجاوزها الجميع بحل سياسي، لذلك يجب أن يبقي على الجسم الخليجي معافى، فالجسم المعافى يبرأ أسرع من الجسم العليل.
آخر الكلام:
هناك قوى وأحزاب وأفراد «ترقص في كل حفل» ووجدت في الأزمة الخليجية ضالتها، للرقص المحرم!
المصدر: الشرق الأوسط