كاتب سعودي
عندما هطلت الأمطار بغزارة على الرياض الأسبوع الماضي، وشاهدت مقاطع مصورة لبعض الطرقات والتقاطعات التي تحولت إلى بحيرات خلال دقائق معدودة، تذكرت ما حدث لي في نيويورك قبل أكثر من 23 عاماً، كان يوماً عصيباً، شاهدت فيه الموت أمامي أكثر من مرة، الفرق بالطبع أن أهالي نيويورك لم يحولوا الحدث إلى حفلة «زار» للشماتة والإزدراء والتهكم كما فعلنا مع الأسف. طبعاً لا أقصد بذلك تكميم الأفواه ضد النقد البناء الهادف، لكني بكل تأكيد ضد الإقلال المتعمد و«المنظم» والاستهتار «المقصود» الذي يقوده أفراد وجماعات في الداخل والخارج انفضحت، ولم تعد قادرة على إخفاء مآربها وأهدافها.
كنت في رحلة عمل في مدينة نيويورك لحضور معرض عالمي للأغذية في شهر أكتوبر في مطلع التسعينات الماضية، وأنهيت المهمة في اليوم الثالث للمعرض، وأحضّر للعودة إلى المملكة عبر التوقف في باريس، موعد رحلتي الساعة السابعة من مساء اليوم التالي، استيقظت باكراً صباح ذلك اليوم، بهدف التمكن من زيارة متجر لأدوات البولينغ وشراء أربع كور بولينغ جديدة، لي منها اثنتان، واثنتان لأحد الزملاء في منتخب المملكة لهذه اللعبة، وهذا ما حدث، فأتممت هذه المهمة، وليتني لم أفعل، وتناولت الغداء، وعدت إلى الفندق في وسط مانهاتن، لكي أستعد للذهاب إلى المطار، فجأة انشقت السماء على المدينة، وهطل المطر بغزارة تماماً كما حدث في الرياض قبل بضعة أيام، قررت مع هذه الأحوال أن أستعجل بمغادرة الفندق، خوفا من بطء السير، نزلت إلى التاكسي، ومعي حقيبة ملابسي الكبيرة ذات العجلات، وحشوتها ملابس وهدايا لأطفالي، والحقيبة اليدوية المليئة بالكاتلوجات والأوراق، إضافة إلى حقيبتي البولينغ التي تزن الواحدة منها أكثر من ٣٢ رطلاً.
سار بي السائق إلى المطار قبل الساعة الثالثة عصراً وما إن عبرنا شوارع مانهاتن ببطء، ودخلنا في الطريق السريع، إلا وتوقف السير، السبب تجمع المياه في بعض التقاطعات والأنفاق وتحت الكباري المنتشرة على طول ذلك الطريق الرئيس المهم، احتال السائق على الطريق المزدحم، وبدأ يقود السيارة داخل الأحياء المجاورة، عند الساعة الرابعة والنصف تقريباً اضطر السائق إلى الدخول في الطريق الرئيس من جديد، بسبب انتهاء الأحياء السكنية، وقربنا من حدود مطار جون إف كينيدي، سرنا ببطء شديد حتى وصلنا إلى جسر تحول أسفله إلى بحيرة لا يمكن للسيارة اجتيازها، توقف السائق ونظر إليّ وهو في حيرة، شاهدت المسافرين ينزلون من السيارات الأخرى، ويحملون حقائبهم، ويسيرون على الأقدام فوق الأرصفة، واقتنعت بسرعة في أن هذا هو الخيار الوحيد الذي أمامي، الآن يبعد مبنى المطار عن هذا التقاطع ما يقارب كيلومترين، لكنها ملتوية طلوعاً ونزولاً، تساءلت للحظة كيف يمكنني السير ومعي هذه الأثقال؟ لكنني عزمت.
وضعت حقائب البولينغ على كتفي الأيمن والأيسر، وربطت الحقيبة اليدوية على طرف حقيبة الملابس، وبدأت أسحب الحقيبة، وأسير منحنياً إلى الأمام، ولكن بصعوبة واضحة، بسبب الوزن وصعوبة الأرض وكثرة المعوقات والتحويلات، هرباً من المياه المجتمعة، إضافة بالطبع إلى استمرار هطول المطر في شكل متقطع، الغريب أنني وفي خضم تلك المعاناة لم أفكر بترك حقيبتي البولينغ أو إحداهما على الأقل، إذ يبدو أن هوسي بتلك اللعبة في ذلك الوقت منعني حتى من مجرد التفكير في ذلك، استغرق السير على الأقدام ساعة ونصف الساعة تقريباً، ولم يبقَ أمامي إلا اجتياز الشارع المقابل لصالة ركاب شركة «تي دبليو إيه» قبل إفلاسها، وهكذا فعلت ويا لهول المشهد، وجدت صالة الركاب مغمورة بالمياه، ولا يوجد مخلوق أمامي وكاونترات الشركة خالية من البشر، ماذا أفعل الآن، وبدأت أشعر بالأعياء والتعب الشديد، إضافة إلى التوتر والقلق والحيرة، بالفعل شعرت للحظات أنني لن أنجو من هذا اليوم الغريب، وتوقفت أنظر من حولي في وجل، وخفقان قلبي يتسارع في شكل مقلق ومرعب، وكنت أتوقع فقدان الوعي في أي ثانية، لاحظتني سيدة خمسينية من موظفات الشركة، فهرعت إليّ، وقالت: إلى أين تنوي السفر؟ قلت لها: رحلتي إلى باريس، ولم يبقَ على موعد الرحلة إلا أقل من ساعة، قالت جميع الرحلات مؤجلة، ولا تقلق من حيث الوقت، لكننا لا نقوم بأي إجراءات للمسافرين الآن، توسلت إليها بأن تقوم بإجراءات العفش للتخلص منه فهو الهم الكبير والمزعج والمقلق، وافقت بشفقة، بل وساعدتني في حمل الحقائب وسط هذه البركة الضخمة من الماء، وأدخلت حقائبي المبتلة إلى الداخل، وناولتني الأوراق، وكرت يدوي للصعود للطائرة، وودعتني مبتسمة، وغادرت المكان. عبرت الأجهزة الأمنية، وكانت سهلة جداً في تلك الأيام، إلى المنطقة المقابلة لبوابة الرحلة وأمامها أعداد هائلة من الناس يرقبون، يبدو أنهم تجمعوا من رحلات أخرى مؤجلة، لا بسبب عدم تمكن الطائرات من الإقلاع، بل تم التأجيل لصعوبة تمكن الركاب من الوصول إلى المطار، لم يعلن عن موعد جديد للإقلاع، والتعب والإرهاق ينهش جسمي، عندها كتبت على ورقة لاصقة صفراء صغيرة كلمة «باريس» وألصقتها على جبهتي، واستسلمت للنوم على كرسي بالقرب من هذه الجموع، كانت الساعة وقتها تشير إلى السابعة والنصف مساء.
استيقظت على أحدهم وهو يرفع يدي، ويقول إن رحلة باريس على وشك الإقلاع. كانت الساعة تشير إلى الـ10 مساء، وشاهدت البوابة وأمامها زحام غير منتظم وفوضى غير معهودة، شركة الطيران غيرت نوع الطائرة، ودمجت رحلتين في رحلة، وأعلنت أنه لا يوجد تحديد للمقاعد داخل الطائرة، بمعنى أن المقاعد مفتوحة أو «من سبق لبق». لجأت إلى مهاراتي القديمة في المدرسة (المتوسطة والإبتدائية)، وتسللت متمسكناً بين الناس كيفما كان حتى وصلت إلى الصف الأمامي مقابل البوابة من دون أن يعترض من حسن الحظ أحد، ما هي إلا دقائق ودخلت الطائرة، وجلست في المقعد الأقرب ثم أقلعنا إلى أوروبا، شعرت عندها وكأني أفقت من كابوس مزعج، فحمدت الله الذي ساعدني ونجاني من تبعات هذا اليوم.
سبب خوضي في تفاصيل هذه الرحلة هو أنني ظننت أن هذا ضرورياً لوصف الحال، على رغم اكتشافي هذه اللحظة أنني لا يمكن أن أكتب رواية على الإطلاق. أقول، المطر لا يتحكم بكمياته إلا الله سبحانه وتعالى، كميات المطر والوقت السريع التي هطلت فيه بغزارة هي التي تسببت في المشهد الذي وصفته لكم في نيويورك المدينة الأقدم والماطرة معظم أيام العام، لم يكن هناك عاصفة هوجاء من المياه الدافئة في المحيط الأطلسي كما يحدث في فلوريدا ولويزيانا كل عام بما يعرف بـ«الهيروكين» الجارف، لقد كان مطراً وحسب، وحدثت أضرار كبيرة في ذلك اليوم كما يحدث في مدن عدة حول العالم من وقت إلى آخر وفي ظروف مشابهة. الذي يجب أن نتذكره عند الحديث عن أمطار الرياض هو أنها أي الرياض، لا تخضع للتجارب كثيراً، بسبب شح الأمطار وكثرة الأتربة والغبار، وهو ما قد لا يساعد حتى مع الصيانة في عمل المضخات والأنابيب تحت الكباري وفي الأنفاق بالوجه الصحيح عند هطول المطر للمرة الأولى بعد غياب أعوام عدة. إجراء التجارب بالمياه المنقولة بالخزانات لا يكفي للقياس الدقيق، لو أن الرياض مدينة ماطرة في معظم أيام العام، هل نتوقع أن يتكرر هذا المشهد كل يوم؟
رسالتي للأخوة من أبناء وبنات هذا الوطن العزيز كفانا ازدراء وتشمتاً وإقلالاً لكل ما ينجز أمامنا، «نعم» توجد أخطاء وقصور في مشوار التطوير الكبير في البنى التحتية الذي نمر به في الأعوام الأخيرة، لكن هذا هو الحال مع كل من يعمل. الأخطاء واردة والمهم الاستفادة منها، والعمل على تفاديها، «نعم» ننتقد ونكتب ونقسوا أحياناً في نقدنا، ونبحث في شكل مستمر عن مكامن الفشل والقصور، لكن يجب أن يكون نقدنا هادفاً مغلفاً بالغيرة والولاء والحرص على المكتسبات. علينا أن نتجنب كل ما قد يدفع المتلقي إلى الشعور باليأس والتقليل بقيمة الوطن. يكفينا، كما أشرت في مقدمة القصة تربص «البعض» واقتناصهم لكل حدث وتضخيمهم لكل تافهة في عمل دؤوب لا ينقطع هدفه الإساءة لهذا الكيان العزيز على قلوبنا، أعرف أن مثل هذه الشماتة في النهاية لن تضر، إذ إن هذا النهج قديم ومجرب، ومثل هؤلاء مارس ويمارس عبارات الشتم على الغرب والشرق ومنذ نصف قرن، والنتيجة فشل الشاتم وتطور المشتوم، لكن المشهد يبقى جارحاً ومؤلماً، خصوصاً عندما يقع به بعض المتحمسين من الشبان من دون وعي لما يحمله هذا الازدراء من أهداف.
ختاماً، أقول اللهم اجعله غيث خير وبركة، وأنفع به البلاد والعباد، وأعده علينا مراراً وتكراراً وكن نصيراً لكل مخلص، وبأذن الله ستخرس في النهاية أبواق الأعداء.
المصدر: صحيفة الحياة