منذ زمن وسقراط يئن في قبره، ويتهكم على الذين أسقوه السم لكونه خالفهم في الفكر، ورفض أن يكون كسائر الأنعام، وقال لهم سأشرب السم ولكن الفكرة ستظل حية لأنها تملك من المناعة ما يجعلها خالدة مثل أنهار العالم.
أسبينوزا بصقوا على قبره، بعد أن دفنوه في مقبرة نائية بعيداً عن مقابر الكنسيين، وابن رشد نفوه، وأحرقوا كتبة ووصفه الغزالي بالمهرطق، ولكن كل هؤلاء بقوا في الوجدان الإنساني كمؤسسين لفكر التجديد، وقادة رأي التنوير، لأنهم لم يخرجوا عن نطاق العقل، بل أعطوا العقل مكانه ومنحوه مكانته، وكان الدين الحقيقي سقيا الفكرة، والله في السماء عين لا تغفل عمن يحرسون دينه بأمانة، ورزانة، وتقانة الأوفياء، والنبلاء.
البعض يهمهم قشر البرتقالة، فيظل يشتم الرائحة إلى أن تفسد البرتقالة، وتضيع فرصته في الغذاء الصحيح، أما البعض الآخر، فهو الذي يعرف كيف يكون للبرتقالة قيمة عندما يلج عمقها ويرتشف من الرحيق، فتكون فائدته أنه أخذ من طبيعة الأشياء لبها وحقيقتها، واستلهم من عطاء الله ما فرضه على البشرية.
كتلة من الجحيم تسكن ضمائر البعض، فتعميهم عن رؤية الحقيقة، ولا يرون من الحياة سوى نصفها الفارغ، ولا يرتوون إلا من حثالة البئر المهجورة، فاليوم تستعر نيران البعض لمجرد سماع فكرة مناهضة لفكرة سابقة قد ناموا على مخدتها واستراحت عليها أبدانهم، هؤلاء تخيلوا دائماً أن الفكر الإنساني مثل بقعة الزيت لا يمكن لمسها أو الاقتراب منها لأنها لزجة، وسمجة، هؤلاء تصوروا أن الفكر الإنساني مادة غير قابلة للاشتعال، فهي ميتة منذ جبلتها، ولذلك تحمر عيونهم، وتكفهر وجوههم وتتدلى شفاههم، وتتسع دائرة اللاوعي لديهم مهما سمعوا عن فكرة تقترب من اللاشعور لديهم، فينتفضوا مثل الأرانب المذعورة، وترتعد فرائصهم خوفاً من تحريك الأحجار من حول جحورهم، وكأن ما يحيط بهم كائن مجلجل ومخيف.
هؤلاء الأشخاص لا يدافعون عن قضية، وإنما يدافعون عن أنفسهم التي تكلست عند لحظة تاريخية معينة ويخافون الانتقال إلى منطقة أخرى جديدة لأن نفوسهم الضعيفة لا تقوى على الوصول إلى المناطق الأرفع قامة، فهناك في قمة الجبل تنكشف عورات الضعفاء، ويفضح المخبوء من أكاذيب التاريخ، ودسائسه، وما تم وتزييفه من حقائق.
هؤلاء مرتجفون، مرتعشون خائفون، لأنهم يعيشون خارج نطاق الحاجة الطبيعية، ولأنهم بلا غطاء ديني حقيقي، ولأنهم عند القشور توقفوا، وتوقف الزمن عندهم، وأصبحت دقائق الساعة مثل كتل حجرية وقعت من قمة حبل شاهق.
المصدر: الاتحاد