بقلم: ليستر براون*
تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “هات بوست”
ترجمة: هات بوست
يشهد العالم حالياً مرحلة مهمة تتمثل في الانتقال من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، فمع تقلص موارد الوقود الأحفوري، وتفاقم مشكلة تلوث الهواء، وتزايد المخاوف بشأن عدم الاستقرار المناخي التي تلقي بظلالها على مستقبل الفحم، يظهر اقتصاد عالمي جديد، حيث يحل الاقتصاد المعتمد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياحمحل الاقتصاد التقليدي القائم على الفحم والغاز بشكل أساسي.
المراحل الانتقالية
في عام 2014، حصلت الدنمارك على 43% من احتياجاتها من الكهرباء عن طريق الرياح. كما حصلت كل من البرتغال، وإسبانيا على أكثر من 20%، وأيرلندا على 19% من الكهرباء من طاقة الرياح، بل إنه في بعض الأيام، كانت طاقة الرياح توفر نصف احتياجات أيرلندا من الكهرباء. وخلال عدة أيام في شهر أغسطس 2014، فاق حجم الطاقة التي تم توليدها من الرياح تلك التي تم توليدها من الفحم في المملكة المتحدة. وفي جنوب أستراليا، توفر مزارع الرياح حالياً كهرباء أكثر مما توفره المحطات التي تعمل بالفحم. وفي الصين، تزيد كمية الكهرباء التي يتم إنتاجها من طاقة الرياح عن تلك التي يتم إنتاجها من محطات الطاقة النووية، كما يتم تزويد170 مليون منزل في الصينبالمياه الساخنة باستخدام سخانات مياه تعمل بالطاقة الشمسية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو هذا التحول في مجال الطاقة جلياً في مئات محطات الطاقة قيد التطوير أو البناء حالياً في الجنوب الغربي من البلاد. وتوفر كل من ولايتي “أيوا” و”ساوث داكوتا” 25% على الأقل من احتياجاتهما من الكهرباء عن طريق طاقة الرياح، ويمكن أن تصل تلك النسبة إلى النصف في “أيوا” بحلول عام 2018. كما تحصل ولاية تكساس، التي تعد مركز إنتاج وتوزيع النفط في الولايات المتحدة، حالياً على 10% من احتياجاتها من الكهرباء عن طريق الرياح، كما تقوم ببناء مزارع ضخمة للرياح وخطوط نقل لمسافات طويلة ستمكنها من بيع الطاقة التي يتم إنتاجها عن طريق الرياح بأسعار رخيصة في ولايتي لويزيانا وميسيسبي.
يزداد استخدام الخلايا الشمسية لتحويل ضوء الشمس إلى كهرباء بأكثر من 50% سنوياً حول العالم. في السابق،كانت معظم أنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية صغيرة الحجم وتستخدم عادة على أسطح المنازل. ولكن الآن، إضافة إلى ملايين الأنظمة التي تم تركيبها على أسطحالمنازل، هناك الآلاف من مشروعات الطاقة الشمسية الكبرى قيد التطوير أو البناء. وفي عام 2014، كانت أنظمة الطاقة الشمسية حول العالم تنتج وقت الذروة طاقة تعادل الطاقة التي ينتجها 100 مفاعل نووي على الأقل.
الدوافع وراء التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة
تعد التكلفة من أهم العوامل التي تساعد في هذا التحول، فتكلفة الكهرباء التي يتم إنتاجها عن طريق الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح تنخفض بشكل سريع، الأمر الذي يساهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري للحصول على الكهرباء في عدد كبير من الأسواق. تتوقع دراسة أجرتها الحكومة الدنماركية في يوليو 2014 أن مزارع الرياح التي ستدخل الخدمة خلال عام 2016، ستوفر الكهرباء بتكلفة تصل إلى نصف تكلفة محطات الفحم والغاز الطبيعي. وفي أجزاء من أستراليا التي تشهد طفرة في استخدام الطاقة الشمسية، انخفضت تكلفة إنتاج الكهرباء من الشمس بكثير عن تلك التي يتم توليدها باستخدام المحطات التي تعمل بالفحم.
وقد ساهم انخفاض تكلفة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في فتح الباب أمام استثمارات ضخمة في هذا المجال في قارة إفريقيا. وأشارت مؤسسة بلومبرج لتمويل الطاقة الجديدة أن حجم الطاقة المتجددة التي دخلت الخدمة في إفريقيا خلال عام 2014 فقط يزيد عن حجمها خلال السنوات الأربعة عشرة السابقة.
كما تساهم العديد من المخاوف في قيادة ذلك التحول الكبير من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة. أحد هذه المخاوف يتمثل في القلق بشأن تغير المناخ وتأثيراته على مستقبل البشرية. والسبب الآخر هو الآثار الصحية لاستنشاق هواء ملوث ناتج عن حرق الوقود الأحفوري حيث يموت ثلاثة ملايين شخص كل عام نتيجة أمراض متعلقة بتلوث الهواء الخارجي. أما السبب الثالث، فهو الرغبة في التحكم في إنتاج الطاقة محلياً وضمان أمن الطاقة بشكل عام.
واستجابة لهذه المخاوف الواسعة، تعمل السياسات الحكومية، بما في ذلك سياسات الحد من الانبعاثات، والأهداف الرسمية التي تضعها الدول لنسب الطاقة المتجددة، إضافة إلى الحوافز المالية، على تشجيع التحول نحو الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
ومع تزايد الحاجة للبدائل النظيفة للفحم والنفط، يتزايد اهتمام المستثمرين بمجالات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ولا يقتصر ذلك على البنوك الاستثمارية، ولكن يمتد ليشمل العديد من المليارديرات مثل “وارن بافيت” و”تيد تيرنر” اللذان يضخان مبالغ هائلة في مجال الطاقة المتجددة. ويعد تدفق “الأموال الذكية” في هذا القطاع الجديد نسبياً مؤشراً إلى أن الكثير من الاستثمارات سوف تتبع هذه الخطوات.
رابحون وخاسرون
في هذه المرحلة الانتقالية، يعد أصحاب البيوت أكبر الرابحين، حيث يمكنهم استخدام أسطح بيوتهم لإنتاج احتياجاتهم من الكهرباء. ومن المنظور التجاري، تتوسع الشركات التي تقوم بتصنيع وتركيب الألواح الكهروضوئية بسرعة كبيرة، وكذلك هو الحال بالنسبة لتوربينات الرياح، حيث سيتراوح النمو السنوي في تركيبات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بين 10 و20 بالمئة خلال السنوات المقبلة مع ماسيصاحب هذا التحول في الطاقة من استثمارات وفرص وظيفية غير مسبوقة. وبمعنى أوسع، فإن كل من سيتنفس هواءً أنقى ويستفيد من مناخ أكثر استقراراً سيربح من نتائج هذا التحول في قطاع الطاقة.
ومن بين الخاسرين في هذا التحول شركات النفط والغاز متعددة الجنسيات والمستقلة، بما في ذلك “شيفرون”، و”إكسون موبيل”، و”شل”، وهي ثلاث من الشركات العملاقة في هذا المجال. هذه الشركات مجتمعة أنفقت نصف تريليون دولار بين عامي 2009 و2013 لتوسيع إنتاجها من النفط والغاز. ولكن بالرغم من هذه الاستثمارات الضخمة، انخفض انتاج هذه الشركات في عام 2013، وانخفضت كذلك أرباحها.
منظور عالمي جديد
لن يساهم هذا التحول في الطاقة على تغيير نظرتنا للعالم فحسب، وإنما سيغيرنظرتنا لأنفسنا. فمع تلك الألواح على أسطح المنازل القادرة على تزويد البيوت بالطاقة وشحن بطاريات السيارات، سيكون هناك درجة من الاستقلالية في الطاقة لكل إنسان لم تعرفها البشرية لقرون عدة. كما سنتمكن من الحد من الانبعاثات الكربونية بدرجة كبيرة، الأمر الذي يمهد الطريق لتحقيق الاستقرار في مناخ الكوكب الذي نعيش عليه.
وستتغير علاقتنا مع العالم الطبيعي من علاقة صراع مع الطبيعة إلى علاقة تكامل والعودة إلى الانسجام معها مرة أخرى. وبدلاً من أن نرى أنفسنا بمنأى عن الطبيعة، سنعتبر أنفسنا جزءاً لا يتجزء من النظام الطبيعي. وستحل الألواح الكهروضوئية على أسطح البيوت ومزارع التوربينات التي تدور برشاقة بفعل الرياح، محل تلك المداخن التي تلوث الهواء وتساهم في تغير المناخ.
هذا القرن، مع تحول العالم نحو الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فإننا نشهد توطين اقتصاد الطاقة، وبدلاً من أن تأتي الطاقة من الجهة الأخرى من العالم، ستكون الطاقة الخاصة بكل منا قريبة قرب مسافة الأسطح التي تغطي رؤوسنا. وبدلاً من أن يتحكم عدد قليل من الدول في إنتاج معظم طاقة العالم، فإن أصحاب البيوت في كل مكان سيدخلون عالم الطاقة، وينتجون ويديرون إمدادات الطاقة الخاصة بهم.
ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟
تعد السياسات الحكومية عنصراً مهماً في عملية تحول الطاقة. وإحدى الأدوات الأساسية للسياسات هي التعرفة مقابل تغذية الشبكة الرسمية بالطاقة المتجددة (Feed-in Tariff)، والتي تضمن لمنتجي الطاقة المتجددة،بدءاً من الذين ينتجونها من أسطح بيوتهم وحتى مزارع الرياح الضخمة، الربط مع شبكة الكهرباء وتقديم سعر شراء طويل الأمد للكهرباء التي ينتجونها. ومن بين السياسات الحكومية الأخرى فرض نسبة معينة من مزيج الطاقة على مستوى الدولة من مصادر متجددة. هذه السياسات التي تسمى معايير محفظة الطاقة المتجددة (RPS) أو الحصص، تعتمدها نحو 24 بلداً حول العالم. كما يمكن للإعفاءات الضريبية أن تساهم في توسيع الاعتماد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وهناك نحو 37 بلداً حول العالم لديها إعفاءات ضريبية على المستوى الوطني في إنتاج الطاقة المتجددة أو الاستثمار فيها.
مثل هذه السياسات المساندة للطاقة المتجددة تساعد على توفير فرص متكافئة مع أنواع الوقود الأحفوري الرخيصة بشكل مصطنع والتي كان يتم دعمها لفترة طويلة منذ ظهورها لأول مرة على مسرح الطاقة. ومن العوامل التي ستدعم هذا التحول في الطاقة بشكل كبير، فرص سعر معين على الانبعاثات الكربونيةلنقل صورة دقيقة عن التكاليف الاجتماعية والبيئية الحقيقية الناتجة عنحرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي. وإذا تم ذلك بشكل صحيح، فإن فرض سعر للكربون يرسل إشارة قوية في السوق ويرشد أصحاب القرارات نحو اتخاذ قرارات أكثر استدامة.يمكن ان يشمل وضع سعر على الانبعاثات الكربونيةفرض ضريبة الكربون، أو وضع “حد أقصى للانبعاثات والمقايضة” (cap-and-trade)، أو مزيجاً من النظامين. في برامج “الحد الأقصى للانبعاثات والمقايضة”، تحدد الجهات الرسمية المعنية الحد الأقصى المسموح به من انبعاثات الكربون، ويتعين على المنشآت التي تنتج أكثر من هذا السقف المسموح به إما أن تقلل من حجم انبعاثاتها، أو شراء ائتمانات الانبعاثات الكربونية من سوق الكربونالذي يحدد السعر.
في المقابل، تعد ضريبة الكربون أداة أبسط بكثير، حيث إنها ضريبة تفرض على كل طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ويمكن تطبيق الضريبة على كل بئر بترول أو منجم فحم أو على النقاط التي يتم فيها معالجة أو استخدام الوقود الحفوري. ويمكن أن تذهب إيرادات ضريبة الكربون إلى البرامج البيئية ومشروعات الطاقة النظيفة. ويمكن بدلاً من ذلك إجراء مقاصة من خلال تخفيض الضرائب أو إعادتها مباشرة للمستهليكن على شكل أرباح. وفي جميع الأحوال سيعود ذلك بالفائدة الاقتصادية على الجميع، ما عدا هؤلاء المسرفين في استهلاك الطاقة.
وفي الوقت نفسه، فإن الاستثمار في كفاءة الطاقة أرخصبشكل عام من بناء قدرات إنتاج جديدة. وتشير تقارير الوكالة الدولية للطاقة إلى أن المكاسب الناتجة عن كفاءة الطاقة منذ سبعينات القرن الماضي في 11 دولة من الدول الأعضاء تشمل استراليا، واليابان، وألمانيا، والولايات المتحدة، وفرت على هذه الدول أكثر من 740 مليار دولار من تكاليف إنتاج الطاقة.
هناك إمكانات هائلة لتحقيق وفورات كبيرة في الطاقة في جميع القطاعات الرئيسة المستهلكة للطاقة بما في ذلك الإضاءة، والمباني، والأجهزة الكهربائية، والصناعة، والنقل. فعلى سبيل المثال، يستهلك قطاع الإضاءة نحو 20 بالمئة من الطاقة على مستوى العالم، فإذا تم تغيير المصابيح الكهربائية المتوهجة التقليديةحول العالم إلى مصابيح الفلورسنت المدمجة التي تستهلك 75% أقل من الطاقة الكهربائية، يمكن إغلاق نحو 270 محطة كهرباء من التي تعمل بالفحم. والأكثر من ذلك، فإن استبدال تلك المصابيح المتوهجة بالمصابيح الثنائية الباعثة للضوء (LED) يمكن أن يقلل استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 90 بالمئة. ولأغراض التوضيح، فإن استبدال لمبة واحدة من المصابيح المتوهجة قدرة 100 وات بمصباح ثنائي باعث للضوء (LED) يمكن أن يوفر طاقة على مدى عمر المصباح كافية لقيادة سيارة تويوتا بريوس هجينة من نيويورك إلى سان فرانسيسكو.
وبصرف النظر عن صياغة السياسات اللازمة، فإن الحكومات نفسها تستهلك الطاقة بكميات هائلة. ومن شأن وضع اللوائح التي تلزم المباني وأساطيل المركبات والمشتريات الكهربائية الحكومية بتلبية معايير معينة من الكفاءة، أن يساهم في توفير الطاقة وبالتالي أموال دافعي الضرائب.
على مستوى المدينة، يمكن لمعايير تخطيط النقل الحضري الذكية مثل زيادة استخدام وسائل النقل المشتركة، ومشاركة الدراجات الهوائية، وتطوير المجتمعات التي تشجع السكان على المشي، أن تساهم في التوسع في استخدام الحافلات وقطارات الأنفاق والسكك الحديدية، وكذلك زيادة الممرات الخاصة بالدراجات الهوائية، والأرصفة، والمسارات الخاصة بالمشاة.
ويمكن للأفراد المساعدة في عملية التحول في الطاقة عبر القرارات التي يتخذونها من السيارات التي يقودونها إلى شراء الأجهزة الكهربائية الأكثر كفاءة في الطاقة، مروراً بالمساهمة بفاعلية في هذا المجال لتشجيع التغييرات المطلوبة، فإنقاذ الحضارة لا يحدث من مقاعد المتفرجين.
نحن جميعا أصحاب مصلحة في هذا التحول. فعلى النطاق الأوسع، سيكون كل من يتنفس هواء نقياً ويشرب ماءً نظيفاً، ويستفيد من مناخ أكثر استقرارا، على رأس قائمة المستفيدين من نتائج التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة.
===================
*ليستر براون مؤلف كتاب “التحول الكبير: الانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح” بالاشتراك مع جانيت لارسن، وج. ماثيو روني، وإميلي آدامز – مايو 2015
*الصورة من موقع وورلد بوليسي جورنال نقلاً عن شركة بورتلاند العامة للكهرباء