للكلمة سحرها وذخرها وبحرها وسرها وسبرها ومبتدؤها وخبرها.
للكلمة مكان الغيمة في إرواء أعشاب الوعي، وللكلمة زمان الحلم في تنوير المقلتين وإضاءة رموش الحياة.
لكل كاتب مآله في مواطن الكلمة كما أن لكل شيخ طريقته في ترتيب أنامل الفكرة وتهذيب خصلات المعرفة.
هكذا استتب وعي الإنسان منذ غابر العصور ودابر الدهور على أن للكلمة منزلاً ومنزلة ولها وطن وتوطئة، ولها حلم ويقين الذاكرة في تثبيت المشاهد والصور وتشذيب أغصان الشجر، ووضع القافلة عند مشارف الطرق المؤدية إلى فضاءات الأحلام الزاهية.
للكلمة منسوب بعضها في القاع وبعضها عند السطح، تطفو مثل قشة على ظهر موجة والبعض الآخر في متوسط العمر في صلب القيم الإنسانية تمضي بالأفكار إلى حيث تكمن الحقائق وتختفي الحيل البصرية.
اليوم رغم كل الهتافات الصارخة والمدوية والزئير الهادر والمزلزل عند الجديد في الذكاء الاصطناعي، حيث أنصاره ودعاته أصبحوا يهللون كما هلل أينشتاين حين تم اكتشاف انشطار الذرة وصرخ في أذني الرئيس الأميركي الأسبق قائلاً: «الآن نستطيع أن نصنع القنبلة الذرية»، ولكنه بعد حين اكتشف الرجل العبقري أنه كان يغط تحت خدعة بصرية، حيث القنبلة الذرية هي التي أهلكت وأبادت أحلاماً في عيون البراءة، فعاد وقال الرجل: «المعرفة من دون حب دمار للفرد والآخر»، وأعتقد أن الإغراق في عشق الذكاء الاصطناعي وإخراجه عن مساره الصحيح وانحرافه عن محاسنه الذكائية، وهي كثيرة جداً قد يعيد البشرية إلى بدائية التفكير وإخراج الإنسان من إنسانيته.
فكم نحن بحاجة ماسة وملحة إلى التكنولوجيا ومنها الذكاء الاصطناعي، ولكن عندما يخرج من بيننا من يلغي آدمية الإنسان ويخرق مشاعره في مواقد الآلة الفجة تصبح النعمة نقمة والحلم كابوساً وننتهي جميعاً إلى ترس في الآلة، كما قال مارتن هايدجر.
نحن بحاجة إلى حضارة الإنسان المنغمس في قلب الحضارة وليس بحاجة إلى إنسان يقف متفرجاً عند هامش الحياة.
الحضارة في علاقة وطيدة مع التقدم العلمي ومع دهشة الاكتشافات العلمية ولكنها ليست حليفة ذلك الانبهار بعلم يلغي دور الإنسان، ويهمش قدراته العقلية ويفرغ مشاعره من معناها ومحتواها.
الحضارة البشرية بدأت بوعي الإنسان بأهمية العقل في إدارة شؤون الحياة وفي البحث والتنقيب واكتشاف الجديد في مختلف نواحي الحياة، ولكنها كانت حذرة وحريصة بألا تقع فريسة بين مخالب الفرحين بلعبة الصواب والخطأ.
أشعر بألم شديد يقتحم رأسي عندما أسمع من يدّعون بأن الذكاء الاصطناعي قادر على كتابة عمل أدبي في ثوانٍ وهذه الخدعة البصرية تعني التخلي عن إنسانية الإنسان وتحييد مشاعره وقدراته العقلية وملكاته الروحية وجعله كبش فداء اللاعلم.
نعشق كل جديد وننبهر باكتشافاته ونعتز بالمكتشفين والمخترعين والمبدعين، ولكننا نضع علامة استفهام ضخمة أمام الادعاء بجعل العقل ماكينة تقود الحضارة من دون إرادة بشرية تحدد مستويات القيادة واتجاهاتها وقوتها.
المصدر: الاتحاد