جدلية التاريخ، وحركة التغيير في فنائه الداخلي تجعلنا تبحث في الحيثيات، وفي الثنايا والجذور، وفي الأطياف، والأعطاف، وفي النسق، والسياق، لكي نعبر المحيط من دون خبات تهشم نسيج الألواح وتصدئ الدسر.
اليوم أحاول أن أستدعي ذاكرة ما تختبئ تحت الجلد، وتضم في حواشيها كل ما لمع، وكل ما فقع، ولعلي ألمس بعض النواصي في حلم الأمس، وبعض ما توارى من لوعات أيام انقضت، وتلاشت، وانضوت تحت خدر النسيان.
كانت تلك المرأة والتي أصبحت اليوم مسجية على فراش الوهن وتكدر الأنفاس، قد جلبت لي، ولك ماء العذوبة من بئر في منطقة الحديبة، وكان على رأسها منطقة محايدة، تضع عليها صفيحة الماء، ولما تحط رحالها تتلمس قشرة الرأس لتخفي بعض الوخزات، وبعض الحسرة، مغموسة بفرح الانتصار على الزمن.
كانت تلك المرأة عند منتصف النهار تقف على رمل الشاطئ المتشظي باللهب، باحثة عنك وعني، وعن أبناء الجيران الذين غاصت أجسادهم الصغيرة في اللج، وبات من المهم استجلابهم فرداً، فرداً، قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه، وكانت اللهفة تسبق العين الشاخصة خلف ما تخفيه الموجة، من رؤوس غطست في الماء، كأنها أعلام قديمة انتزعت من سواريها.
كانت تلك المرأة هي الراعي، وهي الساعي لتحريض المشاعر على دفء الجريد، وسعف النخيل، كانت هي الربان، والمطرقة والسندان، كانت الحيلولة دون ضياع فلذات الأكباد في مجهول اللهو، وأحياناً المجهول والعدم.
كانت تلك المرأة حليب الحياة الذي لم ينقطع سيله، ووسيلته، وكانت عصا الترويض، والحض على منع انثيال الرغبات بعيداً عن منوال العادات، والتقاليد، وما سنه الجيل السابق من قيم، ومبادئ لا تفر من قفص الحماية، والحفظ والصون.
اليوم تبدو تلك المرأة مثل عجلة قديمة تدهورت عند منتصف الطريق، لتأتي بعدها عربة أخرى لا هوى لها ولا هواية غير التجلي بعيداً عن مسؤوليات الرعاية، ولا خضاب على كفيها سوى ذاك الأحمر الفاقع منحوتاً في الراحتين كأنه علامة من علامات السطو على المرحلة، ليبقى الصغار مثل سرح فك عقاله ونام المسرح تحت ظل هوجاء، وعشواء، وشعواء، وبيداء قاحلة مكفهرة قاتمة.
فيا ترى هل لنا أن تستغيث بها، تلك التي غدرها الزمان، وأوقع راحلتها في حضيض التعب، وصارت في الدنى غزالة شائخة.
يا الله كم هي عزيزة أذلها الزمن لتأتي بعدها من ليس لها في الحياة غير فرشاة تمسح عن محياها نتوءات ما فعله الليل بالنهار.
المصدر: الاتحاد