إعلامي سعودي
من يتخيل أن الرياض، المدينة المحافظة جدا، أهلها كانوا أكثر تسامحا. قبل ثلاثة عقود، كانت في مدارسها مسارح، وفي أنديتها سينما، وفي شوارعها فرق موسيقية عسكرية، وأعيادها حفلات وعرضات شعبية، ومسرح تلفزيونها للحفلات الفنية.
ومثله يقال عن قاهرة الستينات والسبعينات؛ مسارحها وفنونها ومعاهدها.. ويقال أكثر وأكثر عن الكويت.. ولبغداد الأمس صور لا تصدق في بغداد اليوم؛ شارع الرشيد بدور الفنون والثقافة والعبادة، ولدي صورة مكتب شركة «متروغولدن» للإنتاج السينمائي الدولي في الأربعينات، فمن يصدق ما يحدث اليوم؟
ونصدم أكثر عندما نسمع معارك تونس وضواحيها، وملاحقة الفنانين في القاهرة التي لم تخطر على بال أحد. وما حدث في الإسكندرية أعظم؛ حيث دفنت «البلدوزرات» فجر الجمعة سوق الكتب في شارع النبي دانيال.
كل الشعوب تتطلع إلى الأمام، وتأمل في الأفضل، لكن يبدو أننا نسير حيث تغرب الشمس، ولا أحد يدري متى تشرق.
ومصر حالة أكبر، حيث إن ما يحدث فيها بدايات مروعة ضد الفنون، وضد الإبداع، وضد قرنين من التطور.. أهميتها أنها أكبر وآخر قلاع الإبداع والفن في المنطقة، بنهايتها ستغرق المنطقة في ظلام سحيق.. وما فعله الرئيس المصري محمد مرسي محاولا تهدئة المجتمع، وإيقاف الحرب بين الفنانين والمتطرفين، عندما سارع واجتمع بكوكبة من الفنانين، أعطى أملا كبيرا أنه ليس في صف المتطرفين. كل من خرج من اللقاء معه كان باسما متفائلا شاكرا للرئيس على مبادرته وموقفه. وعسى أن يكونوا محقين، ليس لأن مرسي قد لا يعني ما يقول، وأنا أظن أنه يعنيه تماما من تأييد والتزام بحمايته الفن والثقافة، لكن هل مرسي الرئيس قادر على مرسي الجماعة؟
من ذا الذي سيمنع الهجوم على أركان الثقافة ودور الفن من قبل الجماعات المتعصبة التي تعتقد أنها جاءت بمرسي وليس مرسي هو من جاء بها؟
المشكلة في استنتاجهم أن الفوز السياسي، والغلبة الانتخابية، تعني غلبة ثقافة على الثقافات الأخرى، وأن الفوز ضوء أخضر ضد الآخر. الغلبة الحزبية، والكثرة الانتخابية، تعطي حق الإدارة السياسية، لكنها لا تلغي الآخرين؛ فهذا في صلب الحريات وحقوق الأفراد والمجتمعات.
في مجتمعاتنا نقاشات صاخبة، وما يدور فيها من نقاش؛ سياسيا واجتماعيا، يغفل المسألة الأهم، التي منها تبدأ الخطوة الأولى، وهي أن حقوق الآخرين وحرياتهم ثابتة، مهما كانوا هامشيين أو أقليات.. من شروطها التعايش، والتسامح، والقبول بالآخر.
والمحير، في عالمنا العربي الذي يموج بالأفكار ورغبات التغيير ودعوات الإصلاح، أن الذين يرفعون شعاري «الحقوق» و«الحريات» لا يبالون بتعريف معانيها لأنفسهم وأتباعهم.. ما معنى الحقوق، ولمن؟ ما الحريات وما حدود القبول بها؟
من المؤكد أنه عندما يرفع المحافظون اجتماعيا أو دينيا شعارات الحقوق، أو ينخرطون في العمل الديمقراطي، فإن هذا يعني أن المجتمع بلغ قمة نضجه، لكن في أول امتحان نراهم يفشلون في اجتياز العتبة الأولى.. أي إننا أمام ثقافة التقهقر باسم التقدم، ورفض ظلم من أجل إحلال ظلم آخر محله.. في تونس كان نظام بن علي يمنع خصومه من حقوقهم وحريتهم.. الآن صارت فئات في المجتمع تفعل أسوأ مما كان يفعله بوليس بن علي. بعد هذه المقدمات الرديئة للعهد الجديد، هل لنا أن نتفاءل؟ نقول: نعم.. لأننا في بداية صراع مجتمعي، لا صراع أنظمة، ولن يقبل الناس أن تسلب حريتهم تحت أي اسم.
المصدر: جريدة الشرق الأوسط