تحت وطأة العقل المأزوم بالشطط، تبدو الحضارة الإنسانية مثل طائر تحطم جناحاه، فبات في الفضاء متخبطاً يبحث عن مآل فلا جدوى.
اليوم نعاين ثورة التكنولوجيا، ونتقصى ما يحدث في العالم، فتبرز أمام أعيننا مادة الحضارة المتهالكة، تبرز انحرافات العقل عن سدة العقل، ويتحدث إدغار موران عن هذه المسألة بقوله: «إن المستقبل الأفضل هو ذلك الذي يتحكم فيه الذهن بالدماغ البشري، كعازف بيانو ماهر يداعب مفاتيح البيانو لاستنباط أفضل الإمكانيات، وعليه فإن الذهن عندما يكون سيد نفسه، فسيكون قادراً على استخلاص أفضل الإمكانيات الجمالية والأخلاقية، ويصبح المستقبل مشؤوماً عندما يتحكم الذهن في كل شيء إلا نفسه».
إدغار موران حل المسألة، وتوصل إلى النتيجة النهائية لما يمكن أن يحدث للحضارة البشرية عندما يفقد العقل زمام أموره وتفلت منه العصا السحرية التي يتمتع بها، ويصبح أسيراً لقوة أخرى أشد منه ضراوة وهي (الأنا)، هذه الأنا عندما تتملكها الغطرسة، تصبح الموجة العارمة التي تفتك بقارب العقل وتأثره وتأخذه إلى مناطق أخرى غير التي تمنحه الضوء الكاشف، والذي من خلاله يرى فيه كيف يطرق أبواب المجد، وكيف يعمر بيت الحضارة، وكيف يقدم أقصى ما لديه من إمكانيات تفيد البشرية وتجعلها تعيش أجمل أيامها، وينسجم الجميع مع الجميع من دون كراهية ولا ظلم ولا غبن ولا ضنك.
اليوم العالم يقف على حافة نهر يفيض بالمياه الحارقة، اليوم العالم يعيش حالة من التدهور الأخلاقي لأن التطرف بات على أبواب العقل المشرعة لكل ما هو رث وغث، اليوم البشرية أصبحت بحاجة ماسة إلى عقل جديد متخلص من سواد الأيام ومن سوء التفكير وكون العالم يسكن قرية واحدة، فأصبح الوقت يجري على الأعناق كالسيف، وهو الأمر الذي يستدعي الحكمة والتحكم بالأنا الشرسة، ليسير العقل من دون أصفاد هذه الأنا، ومن دون فيروسات تعكر صفو تنفسه، ومن دون غبار يمنع عنه رؤية الطريق الصحيح.
فلا يعقل أبداً أن يسير العالم في الظلمات، وهو قد حقق أعلى مراتب التقدم المادي، في الوقت نفسه يقوم بتدمير كل ما بناه في لحظة تهور عصبية جاهلية.
كل ذلك يحدث أمام أعيننا؛ لأن العقل يعيش أزمة إرادة، ولأن العقل لم يعد يتحكم بنفسه، بل هو مأزوم بالأنا المتورمة، الأنا المكتظة بعوالم الخيالات المريضة.
في لحظة تجلٍّ عقلي وفي نبضة قلب مرهف، يمكن أن تزول هذه الغمة وتنقشع الغمامة، ويصبح العالم بألف خير، فقط أن يعي الإنسان المتحضر أنه يجب أن يخرج من هذا النفق، وأن يتجاوز حدود الانهيار العقلي، والذي أصابه جراء حدوث الشرخ في هذا العقل، بعد أن تسلقت (الأنا) جدرانه وأمسكت بذراعه واقتادته إلى طرق وعرة وجادات مرعبة.
المصدر: الاتحاد