“أنا ولا شي مقارنة فيهم”.. من تقصد؟.. “بيليه، زيدان، مارادونا، إنهم رائعون، عظماء، يعني كل منهم أسطووورة”.. وانتهى الحوار بيني وبين لاعب كرة قدم موهوب في العشرين. ذكرني حواري معه بآخر كان مع فتاة وهبها الله قريحة شعرية غزيرة، مميزة وهي لم تزل في الثامنة عشر من العمر، وهي الأخرى كانت دائما ما تقول “يعني أنا حصير زي المتنبي، هدول أساتذة احنا تلاميذ قد ما كبرنا”. من قال ذلك لكِ ياعزيزتي؟ وانتهى الحوار بإطباق الشفتين ونظرة مطولة للشمال. وقس على ذلك أمثلة كثر بالفن، الرياضة، الأدب ومجالات أخرى.
أسأل نفسي: من علمهم أنهم صغار مهما كبروا، ومن زرع بنفوسهم ذلك اليقين أن من سبقونا فاقونا بمواهبهم وقدراتهم وسبقونا إلى قمم لن نصل إليها؟ سأسميها عقدة السابقين التي شدت انتباهي أيضا في العديد من النصوص القرآنية التي تتحدث عن أقوام رفضوا ما بعث الله به من الحق رفضا أعمى، فقط لأنهم غير قادرين على ترك ما عبد آباؤهم وأجدادهم الأولون. ولطالما انهال الأنبياء على الأقوام بالمعجزات التي شهدوها بأم أعينهم إلا أن تلك المعتقدات التي غرسها “السابقون” كانت أقوى من أن تهتز لذا كانت النتيجة غالبا أن يؤمنوا القليل ويكفر الكثير.
من حملنا تلك العقدة، أهو التاريخ أم جينات الأجداد. أما الأول “التاريخ” فقد قضيت ثمانية عشر عاما وأنا أدرسه، روى لي خلالها قصص أمجاد الأجداد وانتصاراتهم، عزمهم، جبروتهم، ندرتهم ربما و، و، و.. التي تركتني مع انطباع أن الأرض صدقا لن تنجب عمرا آخر ولا صلاح الدين آخر ، ولا متنبي آخر. لكن المصادفة أن الأرض اليوم تحمل نماذج أقسى من هتلر، وأكثر بطشا من الحجاج، وأكثر طمعا من نابليون، لذا ما المانع أن يكون لدينا رجل أقوى من صلاح الدين وأكثر طموحا من المأمون باني مجد بغداد؟
أما جينات جدي فهي التي تصارعني بين حين وآخر لتثبت لي أنها الأقوى. إذ أن جدي كان دائما ما يحمل نفسه من الصفات ما لا أتخيل، وكان يكثر الضحك علي كلما بدر خطأ مني مرددا مقولته الشهيرة “جيل آخر زمن”. مثال بسيط أذكره مذ كنت في الرابعة عشر حين أوكلت جدتي إلي مهمة غسل الصحون، قمت بها كما يجب لكنه لم يكن بالبياض الذي تشتهيه، لذا قالت لي بغضب “بعمرك كان عندي عمك الكبير بإيدي، وحبلى، وحاملة البيت عراسي”.
لا بأس جدتي، لن أفوقك قوة ولا إتقانا لعمل المنزل، هذا على الأقل ما أذكر أني اعتدت التفكير به طيلة تلك الفترة. إلا أن عقدة النقص هذه لم تعد موجودة على الإطلاق وأحاول بطريقة مختلفة أن أخلص المحيطين بي منها لأنها لا شعوريا تهدم الإرادة وتعطي سببا آخر للفشل.
حنين عساف
لمزيد من المعلومات عن الكاتب انقر هنا