عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.
في العام 1996، زار نيلسون مانديلا البحرين رئيساً لجمهورية جنوب افريقيا. ومنذ الاعلان عن الزيارة كنت أهيء نفسي للقاء واحد من آخر الرجال العظام في عصرنا، المناضل من اجل الحرية الذي علم اعداءه والعالم بأسره معنى “التفوق الأخلاقي”.
في الطريق الى المؤتمر الصحافي لمانديلا، اصطرعت في ذهني الافكار والمشاعر. تذكرت المرة الأولى التي علقت فيها صورته الشهيرة وهو محام شاب على جدار مكتبي وهي آخر صورة معروفة له قبل اعتقاله في العام 1964 وهو عائد سراً من الجزائر. الصورة التي بقيت تزين الجدار لسنوات طويلة وبقربها لقطة من حرب فيتنام التقطها المصور الاسترالي الراحل نيل ديفيز الذي قتل اثناء المحاولة الانقلابية في تايلند عام 1985. وفي لحظات الحماسة للقاء المنتظر، كان عقلي يستدعي تلك القاعدة الذهبية في الصحافة: “لا تقع في غرام المصادر”.
هرعت للمؤتمر الصحافي مبكراً جدا واخترت مقعدي في الصف الأول بمواجهة المنصة. أطل مانديلا تحف به مجموعة من مساعديه الشخصيين، آه أخيراً.. وجهاً لوجه مع بطلي! تحدث مانديلا لنحو عشر دقائق وأجاب على كل اسئلتنا بأسلوب ودود، وما ان انتهى المؤتمر الصحافي قفزت الى المنصة وأخذت في حركة سريعة مسجلي الصغير ومددت يمناي نحوه قائلاً: “سيدي.. امنحي الشرف في أن اقول لأبنائي وأحفادي أنني صافحت نيلسون مانديلا ذات يوم”. نظر الي محدقاً لثوان وأجاب بود: “الشرف لي يا بني.. هل بإمكانك ان تساعدني لأنهض؟”… لثوانٍ، لم أصدق ما تسمعه أذناي، المناضل العظيم من اجل الحرية ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا نيسلون مانديلا يطلب مني ان أعينه على النهوض؟ لكن لهفتي للقاء بطلي دفعتني لكي استدير وأمسك بيده اليسرى فيما امسكت مساعدته الشخصية بيده اليمنى. وقف العجوز ومد يمناه نحوي قائلاً: “الشرف لي يا بني”. كنت ما أزال ممسكاً بيده القوية عندما ابلغته بفرح: “سيدي.. زملائي وأنا نحب أن نلتقط صورة تذكاريه معك”. إبتسم وقال: “بكل سرور.. أين تريدني ان اقف يا بني”. خطونا معا الى مقدمة المنصة وأشرت لزملائي ان يتقدموا لالتقاط ما سأعتبره أعز وأثمن صوره في سجلي المهني رغم ان زملائي نحوني الى خلف المشهد.
مرت السنوات وترك مانديلا الرئاسة، لكنه عاد للبحرين في زيارة خاصة عام 2004 ودعينا للقائه. لقد هرم العجوز وبدأت السنوات تثقل خطواته وكان يطلب من مخاطبيه بمرح ان يصرخوا بأعلى صوتهم لكي يتمكن من سماعهم، لكن مرحه وتواضعه وضحكاته بقيت كما هي. حييته قائلاً: “سيدي انها لسعادة بالغة ان نلتقيك مجددا في المنامة”. ابتسم ورد: “نعم.. من دواعي سعادتنا ان نلتقي اصدقائنا الذين وقفوا معنا نضالنا الطويل على مدى عقود… إنني اتذكرك من زيارتي الأولى للبحرين..”. عند هذه العبارة تعين علي ان اضيف لانطباعاتي: “ذاكرته حديدية”. كان وقتها يقوم بمساع لإطلاق عجلة المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وكان الاسرائيليون قد قبلوا مساعيه على مضض لانهم يتهمونه بالانحياز لعرفات والفلسطينيين. تحدث عن مهمته هذه لكن زملائي كانوا متلهفين على التقاط صوره معه. تم ذلك بعد مفاوضات مع حراسه الذين حرصوا على عدم توجيه الفلاشات نحو عينيه. هذه المرة اصررت ان أجلس أمامه بدلا من ان ينحيني زميل الى الخلف مثلما حدث في المرة الأولى.
لم كل هذه اللهفة؟ لربما كانت اكثر، فمانديلا حجز مكانه في التاريخ عبر نضال مرير وطويل قاد فيه شعبه ضد واحد من أسوأ الأنظمة غير الانسانية في التاريخ، وعند خروجه من سجنه الطويل، برهن بجدارة على أنه ليس مناضلاً صلباً فحسب، بل نوع نادر من الزعماء ورجال الدولة وقدم للعالم واحداً من أعظم الدروس: “التسامح بدلاً من الانتقام”.
سيخلد التاريخ نيلسون مانديلا مناضلاً صلباً من أجل الحرية ورجل دولة من طراز رفيع مدفوع بالنوازع الانسانية بدلا من المصالح المحضة والأنانية من أي نوع. لقد صاغ وقدم لشعبه وللعالم تعريفاً أخراً للمصالح عندما زاوج بينها وبين العدالة بدلاً من الدوافع الأنانية الضيفة.
أن تمجيد مانديلا والخطب التي تمتدح فضائله، حري بأصحابها من الزعماء السياسيين أن يحولوها الى مبادئ في السياسات داخل كل دولة وفي العلاقات بين الدول على حد سواء. لقد أعطى مانديلا للعالم مثالاً نموذجياً في الانتقال السلس من حالة الثورة الى حالة الدولة ومتطلباتها. لقد علمنا ان الحفاظ على وحدة شعب وأمة مزقتها النزاعات والمظالم تتطلب تسامياً فوق الأعباء الثقيلة للذاكرة الجماعية. علمنا ان التعافي من جراح الماضي لن يكون بتكرار هذا الماضي المثقل، وأن العدالة ليست انتقاماً بالضرورة من نوع “العين بالعين والسن بالسن”.
أبعد من هذا، قدم مانديلا للعالم درساً في معنى “الولاء” في العلاقات الدولية بعيداً عن النفاق. لم يتخل ولم يتنكر لمن وقفوا مع نضال شعب جنوب افريقيا لعقود طويلة من أجل التقرب من قوة عظمى، لهذا لم يتنكر لياسر عرفات ولا للنضال الفلسطيني ضد اسرائيل الدولة التوأم لنظام “الآبارتهايد”. لم يتنكر للعرب، ولم يتنكر لفيدل كاسترو وكوبا تزلفاً للأمريكيين الذين أبقوا اسمه في قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة لسنوات بعد اطلاق سراحه.
تلك كانت حكمة الرجل العجوز التي أنقذت بلده في وقت حرج ودقيق، لقد أنجز تلك المهمة الجبارة بكلمات غدت حكمة انسانية: “لا يمكن أن أنسى لكن أستطيع ان أغفر”.
لحظة موت مانديلا، استدعت ذاكرتي قصتي الصغيرة تلك معه والعبرة تلوح أمامي: ان كسر بعض القواعد الذهبية في العمل كان أمراً يستحق المحاولة والعناء.. فالرجل كان من طراز فريد واستثنائي من القادة.
المصدر: غلف نيوز