الإثنين ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥
العاشرة صباحاً في مطار واشنطن، كنت أهرول إلى بوابة طيران الإمارات بعد الإعلان الأخير عن الرحلة. ربما كنت آخر مسافر يركب الطائرة، وكأنني أُسابق الزمن كي لا يفوتني هذا الموعد الطويل مع السماء. جلست في مقعدي وأنا أتهيأ لرحلة تقارب خمس عشرة ساعة إلى دبي، رحلة تمتد على خط الزمن كما تمتد على خط الطول. كنت قد استيقظت من النوم قبل ساعات قليلة، فلا مجال للنعاس. ولقتل الوقت شاهدت ثلاثة أفلام متتالية، لكن ما إن نظرت إلى زاوية الشاشة حتى وجدت أن أمامي تسع ساعات أخرى. شعرت بالملل، وكنت أسافر وحيداً، فقررت الذهاب إلى الصالة لطائرة الإيرباص A380، لعلّي أجد بعض الصحبة التي تسرّع عقارب الساعة. في الصالة لم يكن سوى راكبين: أحدهما منهمك بالحديث مع مضيفة تقف خلف الكاونتر، والآخر جالس بصمت يشرب كوب شاي أخضر، تبدو على ملامحه آثار الملل ذاته الذي يسكنني. اقتربت منه وبادرت بالحديث: رحلة طويلة، أليس كذلك؟ ابتسم بخفة وأجاب: نعم، ولكن على الأقل يمكننا تغيير أماكننا من حين لآخر. ملامحه ولهجته أوحت لي بأنه من الصين. سألني إن كانت دبي محطتي الأخيرة، فأجبته بالإيجاب، ثم سألته عن نفسه فقال إنه سيقضي ثلاثة أيام في الإمارات قبل العودة إلى شنغهاي. مازحته: كنت أظن أن الصينيين ممنوعون من دخول الولايات المتحدة. فضحك قائلاً: ليس بعد.…
السبت ١٥ مارس ٢٠٢٥
قصتان ربما تتكرران في كل يوم ولا نعلم عنهما شيئاً، لأن النفوس العفيفة يجرحها السؤال. القصة الاولى حدثت في أحد الأحياء البسيطة، حيث كانت تعيش أمينة، أرملة وأم لأربعة أطفال. بعد وفاة زوجها، تحولت حياتها إلى كفاح يومي لتأمين احتياجات أطفالها، وأكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. كانت أمينة تعمل بجد، ولكن عملها البسيط لم يكن يكفي لسد احتياجاتهم الأساسية. لجأت إلى التسوق بالدين من البقالات القريبة حتى تراكمت عليها الديون ولم تعد تستطيع السداد. في يومٍ من الأيام، وضمن برنامج الهلال الأحمر لمساعدة الأسر المتعففة، تم اختيار المنطقة الشعبية المتواضعة التي تعيش فيها أمينة وعمل لائحة بأسماء الأسر التي تعيش هناك. حاول الموظفون التواصل مع أمينة هاتفياً مرات عديدة، ولكن دون جدوى. قلق الموظفون من عدم استجابتها، فقرروا إرسال أحد المتطوعين إلى منزلها للاطمئنان عليها. عندما طرق الموظف الباب، فتحت أمينة بحذر، وعندما سألها عن سبب عدم الرد على المكالمات، انهمرت دموعها وقالت بصوت متهدج: "ظننت أن من يتصل هو أحد أصحاب الديون. لا أملك المال، وكل يوم أخاف من مواجهة أحدهم". بعد ثوان من الصمت وبصوت متهجد، أخبرها المتطوع الذي مسح دموعه التي لم تستأذنه، وأخبرها أنهم هنا للمساعدة وليس للمطالبة بالديون. خلال أيام قليلة، قدم "الهلال الأحمر" لأمينة وأطفالها دعماً غذائياً ومالياً، وساعدها في سداد دينها…
الثلاثاء ٠٦ أغسطس ٢٠١٩
قهوة الصباح في برلين، غالباً ما أتناولها عند السيد هيلمان، صاحب مخبز «بروكهايم» الصغير؛ وهيلمان مهنته خبّاز، وابنه يورجن، ذو العشرين عاماً، أمضى أربع سنوات في دراسة أسس المهنة، منها آخر سنتين في مخبز والده، شرطاً مسبقاً، ليصبح عضواً في غرفة التجارة والصناعة التابعة لولاية برلين، ومن بعدها يحق له أن ينضم إلى نقابة الخبازين في ألمانيا، ولكن على يورجن، أن يجتاز الاختبار النهائي، الكتابي والعملي، ليمنح لقب «خبّاز مبتدئ». في ذلك الصباح البرليني البارد، وصل «الإيميل»، يزفّ خبر نجاح يورجن؛ كنت أشاهد الموقف عندما احتضن هيلمان، ابنه، ليقول لنا بنبرة فخر «أعلن لكم أيها الزبائن الأعزاء، بأن ابني يورجن، أصبح اليوم خبازاً مبتدئاً، وبذلك يمثل الجيل السادس لعائلتي في هذه المهنة». سألت يورجن: «ماذا درست لتكون خبازاً ؟»؛ كنت مستغرباً لطول المدة في الدراسة الأكاديمية التي تصل إلى قرابة سنتين، ثم مرحلة الممارسة العملية. أجاب يورجن «الخبز مرتبط بكل الحضارات الأوروبية، بل بحضارات أخرى كذلك. هنا في ألمانيا، منذ قرون كانت تخرج التظاهرات، عندما يرتفع سعر الخبز، بل كانت الممالك الألمانية القديمة تضع قوانين تحدد نسبة لاستخدام القمح في صناعة الخبز، بحسب حجم الحصاد السنوي، لضمان توفير الخبز للشعب، حتى تضمن التوازن وكي لا يذهب القمح، لصناعة مشروبهم التقليدي المفضل». سألت يورجن «بصراحة أنا لم أر في حياتي تنوعاً…