الثلاثاء ٠٤ نوفمبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: لم نعد نخوض حربًا، بل نعيش علاقة حذرة بين الكاتب وأدوات الذكاء الاصطناعي. خطوة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، في مشهدٍ لا يشبه سباقًا بقدر ما يشبه مفاوضةً صامتةً بين الخيال والآلة. في زمنٍ يُكتب فيه النص بلمسة زر، يطل السؤال الذي يؤرق كل كاتب: هل فقدنا أصالة الكتابة؟ وهل أصبح هناك كاتب ما قبل الذكاء الاصطناعي وكاتب ما بعده؟ كان الكاتب القديم يكتب من عمق تجربته، بخيباتها وانتصاراتها، معتمدًا على حصيلته المعرفية وذائقته اللغوية. كان نصّه يحمل بصمة بشرية خالصة، تُضاف إلى الذاكرة الإنسانية لا إلى ذاكرة الخوارزميات. كانت الكتابة آنذاك ولادةً جديدة، لا استنساخًا لما قيل من قبل. أتواصل يوميًا مع عدد كبير من الكتّاب، وألاحظ التغيّر في نصوصهم قبل الذكاء الاصطناعي وبعده، بل واعترافاتهم الخفية بأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه تمامًا. حتى أولئك الذين يكتبون بأيديهم، يدفعهم الفضول لوضع نصوصهم في محادثة رقمية، فقط لمعرفة رأي الذكاء فيها. لأن الكاتب، حين يكتب، لا يكتب لنفسه فقط، بل للآخرين — واليوم صار الذكاء الاصطناعي أحد هؤلاء الآخرين. أما كاتب اليوم، ومع تطوّر التقنيات، فقد أصبح موجّهًا للآلة، يتأرجح بين رغبة الإبداع وهاجس الإتقان. إنه يعيش زمن هندسة التوجيه، حيث تُصبح الكتابة أقرب إلى البرمجة منها إلى الإلهام. ومع هذا الاعتماد المتزايد، تسلّل إلينا نوع…
الأربعاء ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات_بوست: كم مرة صدّقنا كذبة صنعناها بأيدينا؟ لا أبالغ إن قلت إن الحقيقة كانت دائمًا أقسى من أن نحتملها. لنتفق: نحن لا نخدع الآخرين بقدر ما نخدع ذواتنا، كلما حاولنا إنقاذ صورتنا الداخلية من الانكسار. الأمر ليس أننا أشرار. ببساطة، نحن نخاف المرآة. يصبح الوهم هنا ملاذاً مؤقتاً، نوعاً من الهدنة مع قسوة الوعي وعبء الاختيار. وكما قيل، "إننا لسنا ما نقول بل نحن ما نفعل." – جان بول سارتر كان محقاً في ثقل هذه الكلمات. نحن نصنع سرديات صغيرة، ونصدقها حرفيًا، فقط لأن العقل لا يطيق التناقض بين ما نفعله وما نؤمن به. هذه هي "التنافر المعرفي" الذي يتحدث عنه علماء النفس، ذلك الشعور المزعج الذي يضربنا حين نعيش بطريقة تخالف قناعاتنا الجوهرية. ولكي نوقف هذا الصداع، يخلق الإنسان غطاءً نفسياً خفيفاً، يبرر به تصرفاته. يعيد كتابة القصة بالكامل ليبدو فيها بطلاً مضطراً، لا شخصاً خان نفسه. أتذكر كم مرة قلت لنفسي: "الظروف دفعتني، لم أكن أريد جرحه." لكنني أعرف، في مكان ما في قرارة نفسي المظلمة، أنني اخترت الصمت. هذا الغطاء يحمي النظام الداخلي من الانهيار، ويسمح لنا بالنوم، لكنه يضعنا في حرب صامتة مع الشاهد الوحيد الذي يعرف الحقيقة: الوعي. الاعتراف بالخطأ، يا صديقي، يعني مواجهة المسؤولية الكاملة عن كل اختياراتنا. نحن نهرب…
الخميس ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: “الإنسان ليس سوى ما يصنع بنفسه” ..جان بول سارتر هل المعرفة والتعليم تذكرة صعود حقيقية؟ وهل تكفي الشهادة وحدها كي نعبر نحو طبقة أعلى؟ السؤال في ظاهره بسيط، لكنه في جوهره يشبه متاهة لا يخرج منها المسافر بسهولة. في أعماقه يختبئ هاجس قديم: مكانك ليس ثابتًا. هناك صوت خفي يذكّرك دائمًا أن قيمتك تُقاس بالمسافة التي تقطعها عن بيتك الأول. من وعد "تحقيق الذات" ولدت فكرة الصعود الطبقي، ليست مجرد ثروة أو وظيفة عليا، بل وهم بالتحرر وخلاص يُمنَح لنا بشرط أن نصعد. الصين قدّمت أول نسخة من هذا الوعد. أتذكر حين زرت معبد كونفوشيوس في بكين، وإلى جانبه الكلية الإمبراطورية التي تحوّلت اليوم إلى متحف يعرض تاريخ الامتحانات القديمة. بين الألواح الحجرية وأدوات الحبر، بدا لي وكأن المعرفة هناك كانت جواز العبور الأول إلى السلطة. كان ذلك إعلانًا مبكرًا بأن الحبر قد يتفوق على الدم، وأن الكفاءة يمكن أن تهزم السلالة. لكن السؤال الأعمق هو: لماذا نريد أن نصعد أصلًا؟ أهو خوف من أن يبتلعنا مكاننا الأول إلى الأبد؟ أم هو توق إلى اعترافٍ لم نحصل عليه ونحن في الأسفل؟ ربما نصعد بحثًا عن أمانٍ نفتقده، وعن تقديرٍ نتوهم أنه لا يتحقق إلا حين نعلو. وأحيانًا نصعد كي نلحق بغيرنا في سباق صامت، وأحيانًا أخرى…
الخميس ١٨ سبتمبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: “الوجود الأصيل يبدأ حين يتوقف الإنسان عن العيش كما لو أن الآخرين يقررون مصيره.” – مارتن هايدغر منذ طفولتنا الأولى لا نكتب نحن قصة حياتنا، بل تُكتب لنا. العائلة ترفع سقف التوقعات، المدرسة ترسم الطريق، والمجتمع يوزع علينا قوالب النجاح والفشل. وسط هذا الزحام، نجد أنفسنا نلهث خلف صورة نظنها "مقبولة"، لا خلف حقيقتنا المختبئة. وهنا تبدأ بوادر شرخ خفي: أن تشعر أنك تؤدي حياة لا تخصك. هذا الشعور ليس مجرد انزعاج عابر، بل هو بداية الاغتراب عن الذات. يصف علماء النفس هذه الحالة بأنها فقدان الصلة مع "الذات الحقيقية". نصبح أسرى لأدوار اجتماعية مفروضة. نبتسم. لكن وجوهنا لا تعكس دواخلنا. نسعى وراء أهداف لا تعبّر عنا. ومع مرور الزمن يطلّ علينا تساؤل مُلحّ من دواخلنا: من أنا حقًا؟ نحن في جوهرنا أبناء بيئتنا، نحمل بصمتها كما يحمل الجسد ندوب طفولته. العادات والتقاليد والقبيلة تمنحنا إطارًا من الانتماء والأمان، لكنها في الوقت نفسه تجعل الخروج عن مبدأ الجماعة أمرًا شاقًا. فالمجتمع بطبيعته يميل إلى التشابه، ويجد صعوبة في تقبّل المختلفين. لذلك يتعلم الإنسان منذ صغره أن يشبه الآخرين ليُقبل، وأن يخفي اختلافه كي لا يكون موضع تساؤل. وهكذا نعيش في مفارقة دائمة: نبحث عن الأصالة، لكننا نخشى أن ندفع ثمنها من مكانتنا داخل الجماعة. لكن…
الجمعة ٠٥ سبتمبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: “نُربي أبناءنا ليكونوا أحرارًا، ثم نتألم حين يستخدمون حريتهم.” – كارل يونغ نحلم بالأبناء في بداية حياتنا، وعندما يأتون تتبدل إيقاعات حياتنا. نصبح أكثر انشغالًا بتفاصيلهم، أقرب إليهم، ونربط سعادتنا بمستقبلهم. ومع مرور الزمن، يحضر السؤال:هل نعيش لأنفسنا حقًا، أم أن حياتنا كلها تتحول إلى رهان على أبنائنا؟ الآباء الشرقيون والغربيون أيضاً يتمنون أن يبقى الأبناء بجوارهم عندما يتقدمون في العمر. هذا الحنين طبيعي، لكنه ليس حقًا مضمونًا ولا التزامًا يُفرض على الأبناء. العلاقة الأعمق ليست عقد أبدي، بل رباطً إنساني و وعدًا غير مكتوب، تُقاس مسافاته بالكلمة الصادقة لا بالوجود الجسدي. الأبوة والأمومة في جوهرهما عطاء، لكن أي عطاء؟ بمقابل أو بلا مقابل؟ هل هو ذوبان كامل حتى نفقد ذواتنا، أم عطاء يمنح الأبناء جذورًا راسخة ليستندوا إليها وأجنحة قوية ليطيروا بها بعيدًا؟ "إريك فروم" ، في الفلسفة الإنسانية، يرى أن الحب ليس تملكًا ولا ذوبانًا في الآخر، بل هو قدرة عامة على العطاء والاهتمام والمسؤولية. الحب الذي يخنق الأخرين يتحول إلى عبئء، بينما الحب الذي يحررنا يمنحنا حياة. الأبناء خُلقوا لزمانهم لا لزمننا. لهم أدواتهم وقيمهم ورحلتهم الخاصة. غيابهم الجسدي لا يعني أنهم غابوا عن قلوبنا؛ فالمحبة الحقيقية تمنح الحرية قبل أن تطلب القرب. الحكمة أن نفهم هذه الحقيقة مبكرًا، لا بعد أن نكبر…
الإثنين ٠١ سبتمبر ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: الفيلسوف الرواقي “إبيكتيتوس” كان يرى أن قيمة الإنسان لا تكمن في ما يملكه أو يظهره، بل في قدرته على التحكم بنفسه وفهم موقعه في الكون. عبر التاريخ، تغيرت مقاييس النجاح بتغير الزمن: عند الفلاسفة كان النجاح امتلاك الحكمة، عند الملوك لا شيء يضاهي السلطة، عند التجار كان المال والثروة، وعند بعض أصحاب المعتقدات كان النجاح هو القدرة على التحرر من الدنيا. هذه التباينات تكشف أن النجاح نسبي، لا يُقاس بمعيار واحد صالح لكل الأزمنة. أما في عصرنا، فقد فرض منطق السوق مقاييسه القاسية: فصار الإنسان سلعة، قيمته في إنتاجه، وفي قدرته على جمع المال أو حصد الشهرة أو اعتلاء المناصب. جاءت سلطة الصورة من الإعلام وشبكات التواصل ونمط البيئة المعاصر لتكرّس هذا المنطق، فصار النجاح مشهدًا بصريًا يُعرض للآخرين، لا تجربة داخلية تُعاش بصدق. ونتيجة لذلك، وُلد وهم جديد: وهم المساواة والكفاءة. قيل لنا إن الفرص متاحة للجميع، وإنه لا عذر للفشل، لكن الحقيقة التي لم تُقَل هي أن التفاوت قائم، وأن الركض المحموم خلف صورة جماعية لا يترك إلا قلة منتصرة وأكثرية محبطة. الأخطر أن الإنسان تحوّل من صانع معنى إلى مستهلك معنى؛ يعيش حياته ليُثبت للآخرين نجاحه، لا ليشعر داخليًا بالرضا والتصالح. لكن السؤال: هل هناك نجاح آخر، أعمق…
السبت ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥
خاص لـ هات بوست: "لا يمكنك أن تعبر المحيط ما لم يكن لديك الشجاعة لتُغادر الشاطئ." — أندريه جيد. الخمسون ليست بداية محطات النهاية، بل هي محطة وجودية جديدة، عتبة تدخل منها إلى مفترق طريق قد يعيد تشكيل وجهتك القادمة. إنها وقت جديد من حياتك يُعاد فيه صياغة عقد الذات، بعد أن انقضى نصف العمر في سباق محموم لتحقيق أهداف، بعضها اقتنعت به وبعضها الآخر جريت فيه لمجرد أن تكون جزءًا من مجتمعك وبيئتك. عملت بجد، وحققت بعضًا منها، ولم يتحقق بعضها الآخر لأسباب وظروف شتى. الآن تبدأ محطة مختلفة. عند هذا المنعطف لا يُطلب منك التوقف، بل إعادة توجيه البوصلة الداخلية. أن تتحول من محاولة السيطرة على عالم خارجي سعيت طويلًا ليقبلك، إلى رعاية صحتك العقلية والجسدية والروحية، وبناء علاقة أعمق وأكثر وعيًا مع ذاتك. يقال إن عمر الخمسين هو سنّ النضج المعرفي. حيث يتبلور الوعي بأن ليس كل ما يلوح في الأفق يستحق انتباهك، وأن الجدالات المستنزفة للطاقة لا تضيف شيئًا إلى شخصيتك. يصبح الاختيار هنا فعلًا فلسفيًا: أن تختار معاركك بعناية، وأن تدفع ثمنًا بسيطًا مقابل راحة بالك. هذا التحوّل من منطق المنافسة إلى منطق التصالح هو جوهر التقدّم في العمر. في هذا العمر تتحول المعرفة من مجرد رصيد شخصي إلى إرث يتجاوز حدود الذات. لم يعد…
السبت ٢٧ مايو ٢٠٢٣
عادت الفلسفة إلينا، إلى مدارسنا وجامعاتنا بعد انقطاع طويل. وسائل يسأل: ما معنى عودة الفلسفة ولماذا؟ وما أهميتها لمجتمعنا؟ دعوني أعرّف الفلسفة بأنها وعي العقل بالعالم المعيش، ونشاط العقل في اكتشاف الأسئلة الصحيحة، حول الوجود والمعرفة والقيم والجمال. إنها بما تملكه من مفاهيم ومناهج ومنطق لقادرة على ممارسة النقد المعرفي، فضلاً عن تزويد الوعي بأدوات الحوار الخلاق في كل المجالات التي من شأنها أن تسهم في تطور بلادنا ومستقبلها. وإذا كانت الفلسفة هذه وهي هذه، فهي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للفرد وللجماعة وللمؤسسة. ولما كان هاجسها الموضوعية في الأحكام حول العالم، والتحرر من كل ما يعيق العقل من التفكير الموضوعي، فإنها تكشف عما وراء ظاهر الأشياء، عن الأسباب العميقة التي تفسر لنا الظواهر الاجتماعية والسياسية والقيمية. ولقد انتبهت دولة الإمارات العربية المتحدة منذ ولادتها إلى هذه الأهمية السابقة الذكر للفلسفة، وجعلتها مادة للتعلم في المدارس، وإذا شاءت بعض الظروف أن تبعدها عن مجال التعليم، فها هي دولتنا تعيدها إلى سابق عهدها، وبحلة جديدة من الظهور. تعود الفلسفة إلى مناهج التدريس، تعود الفلسفة إلى أقسام كليات الآداب والعلوم الإنسانية، إلى الحوار المدني في الأنشطة الثقافية، إلى إصدار أهم كتب الفلسفة المترجمة وغير المترجمة، والمكتوبة بلغة عربية فلسفية ناصعة. فها هي جامعة محمد بن زايد تعلن عن افتتاح قسم الفلسفة…
الأربعاء ١٩ أغسطس ٢٠٢٠
ترسم الدول سياساتها الخارجية، عموماً، وفق مصالحها الوطنية، وما يدر عليها من قوة واستقرار وأمن. وعلاقة السياسة بالمصالح الوطنية الكبرى لا تلغي اعتراف الدول بأهمية القوانين الدولية، التي تنظم العلاقة بين الدول والسلم العالمي. وهذا الجانب يعني الالتزام العملي والأخلاقي بمبادئ التعايش بين الشعوب. في المقابل، هناك بعض الدول التي نسميها «الدول الأيديولوجية» (مشتقة من كلمة idea في اللغة اللاتينية القديمة)، والأيديولوجية هي الدولة التي تبني سياساتها انطلاقاً من منظومة أفكار تبشيرية، تحاول عبر أساليب كثيرة نشرها! هناك خطر واضح ومباشر من الدولة الأيديولوجية على المجتمعات، وعلى نفسها، يتمثل هذا الخطر في طرح مفاهيم وأدوات من الماضي واستخدامها في الحاضر، لإخفاء نزعات توسعية وطموحات استعمارية، ما يستنزف قدرات المجتمع الذي يريد أن يعيش المستقبل، وعلى سبيل المثال الدولة الإيرانية وتبنيها الفكر الأيديولوجي في طرحها السياسي، الذي يعرِّض المنطقة للخطر وعبث الحروب التي لا تنتهي، وأهم مشكلات الفكر الأيديولوجي هي عدم تعامله مع الواقع، فالدول الواقعة في هذا المسار هي دول غير واقعية، كما في الحالة اليمنية، إذ يستمر الدعم الإيراني للميليشيات المسلحة، والواقع يقول باستحالة أن تحكم اليمن ميليشيات مسلحة، لكن الأيديولوجيا الإيرانية تستمر في إشعال فتيل الحرب. هناك الكثير من المصطلحات الأيديولوجية الزائفة، بدءاً من الحاكمية بأمر الله، وفكرة الخلافة التي يشترك فيها النظام الإيراني، والفكر «الإخواني»، الذي يلغي…
الأربعاء ٠١ يناير ٢٠٢٠
لماذا وقعنا في غرام الصحراء ونحن نعشق البحر؟ كيف لقلب واحد أن يعشق اثنين ويعيش قصتين! تحدثت عن هروبنا إلى الصحراء بعيداً عنه وعن شواطئه في مقالة سابقة، وبعد مرور أربعين عاماً، نحاول أن نعود إليه بكل الطرق، لكن المعادلة تغيرت الآن، هجرنا الصحراء بكامل إرادتنا وحسب شروطنا، ونتوق إلى العودة له الآن بشروطه، ذلك أن كلفة الهروب وفاتورة الرجوع باهظتان، تركناه عندما لم نعد بحاجة إليه، ومع تبدل الزمن لم يعد هو بحاجة إلينا، تغيّر شكل المدينة وتغيرنا ولم يعد فناء بيتك شاطئ البحر بتلك السهولة التي تتصورها. سأروي لكم الحكاية منذ البداية. كيف تعارف كل من الموجة والشاطئ؟ أتساءل دائماً كيف كان اللقاء الأول؟ يا إلهي! كم يعرفان بعضهما بعضاً جيداً، إنهما في تفاهم لحد التلاحم، الموج الغاضب والزبد المتناثر يوتر البحر، يقلب المراكب، يقلق البشر. وحدها الشواطئ تعرف كيف تحضنه، وتهدئ من روعه، وتحضنه بتوازن، وتخفّف من ثورانه، تقبله بحب، ويبدأ بعدها العودة إلى الهدوء والسكينة. وفي المقابل، عندما تريد الشواطئ أن تأخذ قسطاً من الراحة من أقدام البشر، وتنغصات قطع المحار المبعثرة، آنذاك، تنصت لعزف الموجة المنفرد، تأتي ومعها لحنها، موجة تسمعها لحناً وثانية تطردها، وثالثة تغسل إثماً، وأخرى تربت على كتفها، وتقول هامسة: لن أتركك ولو طال العمر. يمارس الكون غوايته مع الطبيعة، ألحان وانعكاسات…
الأربعاء ٢٧ نوفمبر ٢٠١٩
ما قيمة الزمن إذا أردت أن تشتري لحظات مع مَنْ تُحب أو تحترم؟ سؤال يغويك بإجابة على طريقته، فللأسئلة أحياناً سطوة تفرض علينا أجندتها، وتقدم لنا الحقيقة في السؤال والإجابة في علامة الاستفهام. إذا كان الوقت أغلى ما نملك، فنحن متأخرون عن اللحاق به أو حتى مجاراته، لأننا لا نملك الرصيد الكافي لنشتري لحظة قصيرة مُضافة إلى العمر، يتفق معي في هذه الفكرة الكثير من الناس، الأثرياء، ومتوسطو الدخل، ومعدومو الدخل أيضاً! لسنا هنا في صدد الحديث عما يستطيع المال شراءه، فحتى الثراء الشديد يتعثر بأشياء صغيرة، والسبب ببساطة هو عدم القدرة على التحكم فيه، لأن الزمن خارج نطاق سطوة البشر وسيطرتهم، بل هو الذي يتحكم فينا، ويتولى القيادة، بيده مقود الوقت والطريق، لا تستطيع أن تنزل قبل محطتك، ولا تقدر على أن تؤجل موعد نزولك، ولو قمت برشوة الزمن، وهل يستطيع أحد منا أن يرشو الزمن؟ وذلك من أجل البقاء قليلاً ولو إلى محطة إضافية ليستمتع بالحياة؟ ويجبرك هذا السؤال على إجابة مفصلة على مقاسه أيضاً. يقول صاحبي: كيف نستطيع أن نحارب الزمن ونتغلب عليه؟ قلت له: ربما العلم يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال الملغم مستقبلاً! لكن عندما تحارب أحداً، وتريد أن تنتصر عليه، يجب أن تستخدم أسلحته نفسها، أو أقوى منها، فما الأسلحة التي سيستخدمها العلم لوقف…
الأربعاء ١٦ أكتوبر ٢٠١٩
هل المنظومة التعليمية والأخلاقية السائدة حالياً قادرة على مساعدة أطفالنا على فهم ومواكبة المتغيرات التي تقود العالم؟ وهل أطفالنا مستعدون لتحديات المنظومة القيمية والتعليمية التي يحملها المستقبل؟ تبادرت إلى ذهني هذه الأسئلة وأنا أرى الفجوة بين عالم أبنائنا وعالمنا، رغم أننا نعيش العالم ذاته. نرى أبناءنا يختبئون عنا في زوايا مجهولة، مظلمة لنا، ومنيرة لهم. في أحيان كثيرة، نجدهم يحلقون في تطبيقات نجهلها، أو ألعاب تتحكم فيها الرياضيات، أو محتوى يحوي منظومات أخلاقية غريبة عنا. في هذين العالمين اللذين يعيش فيهما كلانا، قد نلتقي في بعض المحطات، لكننا نفترق في الكثير منها. وللإيضاح أكثر، يمكن القول إن الجيل الجديد من أبنائنا يعيش المستقبل، ويتعامل مع تفاصيله يومياً في أفكاره ومعتقداته وأحلامه وطموحاته، بينما نعيش نحن الوقائع الحاضر، ونتعكز على الماضي الذي نعتقد أو نتوهم بأنه قادر على تقديم جميع الحلول لمشكلاتنا. لذا نعمل على إجبار الجيل الشاب، الذي لم يُخلق لعصرنا، من خلال إصرارنا على الإيمان بأنه يشبهنا تماماً، وسيبقى كذلك على الدوام! ونتصور أنه سيعيش تفاصيل تجاربنا نفسها، لذلك لا نهتم للغد الذي يطرق أبوابنا كل يوم، وفي الموعد نفسه. هذا المستقبل الذي لم نلتفت إليه، قد غزا بيوتنا، وهيمن على جزئيات حياتنا. وأكثر من ذلك، أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا وحياة أبنائنا. وهذا ما يحتّم علينا أن…