عبدالرحمن الخطيب
عبدالرحمن الخطيب
باحث في الشؤون الإسلامية.

أمَا آن لهذه الأمة أن تنهض فتطبب نفسها؟

آراء

الأسبوعان الماضيان انشغل العالم كله بمرض «كورونا»، الذي انتشر في السعودية. خوف الحكومة السعودية كان مبرراً، وتعومل مع الإعلام بحذر وشفافية. ولكن استوقفني استدعاء المملكة الكثير من الأطباء من بعض الدول الغربية والشرقية، لعلاج هذا المرض؛ لأنه يضع الكثير من علامات الاستفهام حول إمكانات المملكة لحالات الطوارئ الطبية في الكوارث والنوازل، لا قدر الله.

الأمر الآخر هناك كثير ممن أصيبوا بالمرض تعافوا قبل استدعاء الأطباء الأجانب. بمعنى أن إمكان الاعتماد على الكوادر الطبية في الداخل ربما كانت كافية، ولم يكن هناك مبرر لهذا الاستدعاء. بل لقد أعجبني تصريح رئيس قسم القلب في مستشفى الملك فهد في جدة الدكتور عثمان متولي بعد شفائه من مرض «كورونا»، حين قال: «استخدمتُ وصفات شعبية لمكافحة المرض».

وصل تسونامي الإنفلونزا إليَّ شخصياً، ولكن كل ما فعلته أنني ولجت إحدى الصيدليات وطلبت من الصيدلي أفضل دواء ضد السعال. فأعطاني شراباً، وقال: هذا أفضل شيء، لأنه صناعة ألمانية. حين عدتُّ إلى بيتي لفت نظري أنه شراب عصارة ورق اللبلاب. قلت في نفسي: سبحان الله! وهل عدم العرب من يصنع مثله في أرضهم؟ ولاسيما أن اللبلاب يمكن أن ينمو حتى في المنازل. ثم تبين لي أن هذا الاكتشاف الذي نسبه الألمان إلى أنفسهم إنما سرقوه من أجدادنا العلماء الأطباء والصيادلة.

يقول الإمام الشافعي: «إنما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا. فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب». لقد كان العرب يوماً سادة العالم في جميع العلوم. فبينما كانت أوروبا تعيش في ظلام القرون الوسطى كانت عواصم الوطن العربي تنعم بالازدهار الحضاري الزاهي ساطعةً أنوارها في العالم. كان العلماء العرب يمثلون جلّ العالم المتحضر على وجه الأرض. كان منهم: فلكيون، صيادلة، أطباء، فلاسفة، أدباء، علماء طبيعة، رياضيون، أمثال الخوارزمي والكندي والرازي وابن رشد. وما من شك في أن المسلمين هم واضعو أسس علم الطب والصيدلة، وأول من اخترع علم تحضير الأدوية. ومؤلفات العلماء العرب في مجال الطب والصيدلة ظلت مرجعاً مهماً للدارسين في أوروبا اللاتينية قروناً مديدة. فكتاب «القانون في الطب» لابن سينا اعتمد عليه مرجعاً أساسياً لدراسة الطب في الجامعات الأوروبية طوال 600 عام، وتُرجم إلى معظم لغات العالم. وما زالت أكثر جامعات العالم شهرة تنصب تماثيل له، وتسمي قاعاتها باسمه. وهو ما أكدته الباحثة زيجريد هونكه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»، إذ قالت: «قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم، فلم تكن تحتوي إلا على مؤلَّف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي مشهور هو أبو بكر الرازي. وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة، بدليل أن الملك لويس الحادي عشر اضطر إلى دفع 12 ماركاً من الفضة، و100 تالة من الذهب الخالص، لقاء أن ينسخ له أطباؤه نسخة يرجعون إليها إذا ما هدّد مرض أو داء صحته أو صحة عائلته».

ويعلق المؤرخ جورج سارتن: «عندما زرت مدينة همدان الإيرانية رأيت مزاراً متوجاً بمنارة إسلامية، يحتوي على متحف يعرض أنموذجات من الأعشاب الطبية التي اكتشفها العلامة ابن سينا في العصر العباسي. كان من بينها نبات ورق الصفصاف. تشير الكتابة إليه أنه يفيد في معالجة أمراض البرد. تذكرت حينها أن معامل باير في ألمانيا تستخدم مادة حامض السالسيك المستخرجة من هذا النبات، وتدخل في صنع أقراص أسبرين باير الذائعة الصيت».

قبل دخول الإسلام إلى إسبانيا كانت الأمراض تفتك بالناس وتُداوَى بالصلوات، وكان محرَّماً أن يُدعى طبيب لمساعدة امرأة في المخاض. يقول المؤرخ غوستاف لوبون: «بعد دخول العرب إسبانيا تفرغوا لدراسة العلوم بشتى أصنافه، وأسسوا الجامعات، التي كانت وحدها الملجأ الوحيد لثقافة أوروبا لزمن طويل».

ويقول المؤرخ الفرنسي دريبار: «كانت مكتبة قرطبة تحوي أكثر من نصف مليون كتاب. وكان طلاب العلم يتوافدون على معاهد الأندلس من جميع القارات ليرتشفوا من نهل الثقافات المتعددة. وعندما كانوا يُكملون دراستهم يعودون إلى أوطانهم، لينشروا ما تعلموه في بلاد المسلمين.

في قرطبة وحدها كان هناك 3000 مدرسة، تشمل مناهجها مختلف العلوم، كالرياضيات والفلك والزراعة والفقه والجغرافيا والطب. وفي عهد الإمبراطور فردريك الثاني طاف كونستانتين عام 1060 بلاد الشرق الإسلامي وتعرف على بعض مراكزها العلمية، وبعد رجوعه أسس مدرسة لدراسة الطب في مدينة ساليرنو في صقلية، وأخرى للطبيعيات في مدينة نابولي الإيطالية، ومدرسة للطب في مدينة مونت لير في فرنسا عام 1137، التي تطورت فيما بعد إلى جامعة.

كان الأطباء العرب، آنذاك، يؤمنون بأنه لا يوجد مرض لا يمكن علاجه بالنباتات، وقد تدرجت معرفة هذا النوع من التداوي من سلالة إلى أخرى حتى تكونت ثقافة الأطباء والعشابين. وقد عرض داود الأنطاكي، وهو من أشهر الأطباء العرب، في كتابه المشهور «تذكرة أولى الألباب» سرداً تاريخياً لتطور طب الأعشاب، ووصفات لجميع الأمراض، والنسب التي توضع في كل تركيبة، وشرح للنبات وفوائده، والأجزاء التي تستخدم منه، لأن النباتات لا يُتعامَل معها ككل، ولكن هناك منها تؤخذ أوراقها فقط وأخرى تؤخذ بذورها فقط. وكتاب ابن البيطار «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» يعدّ من أنفس الكتب النباتية، فقد وصف فيه أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 من صنعه، مبيناً الفوائد الطبية لكل واحد منها.

ثم ترادف المصنفون على اختلاف أحوالهم فوضعوا في هذا الفن كتباً كثيرة، من أجلّها مفردات: ابن الأشعث، وابن الجزار، وابن الصائغ، وابن التلميذ، وابن سينا، وابن جزلة، وابن النفيس، وابن جلجل، وابن الصوري، وأبو العباس النباتي وغيرهم. فكانوا رواداً بحق، برعوا في معرفة الأدوية النباتية والحيوانية والمعدنية، وافتتحوا الصيدليات العامة في زمن المنصور، كما ألحقوا الصيدليات الخاصة بالبيمارستانات (المستشفيات)، وكان للصيدلية رئيس يسمى شيخ صيدلانيي البيمارستان. وجعلوا على الصيادلة رئيساً سمي «رئيس العشابين»، أي نقيب الصيادلة، ووضعوا كتباً خاصة بتركيب الأدوية أطلقوا عليها اسم الأقرباذين.

كان الأطباء العرب أول من اكتشف الأمراض الوبائية المعدية، ويعد الزهراوي أول طبيب اكتشف الطبيعة الوراثية لمرض الناعور. وابن سينا يرجع الفضل إليه في اكتشاف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، ومنها كشفه عن طفيلة الإنكلوستوما. وقد ادعى دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بـ900 عام تقريباً. كما كشف طرائق العدوى لبعض الأمراض المعدية، كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو. وهو ما أكده فان ليوتهوك في القرن الـ18 والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر.

المصدر: الحياة