الأفغاني والبنا.. الخطاب والتنظيم

آراء

طبيعي جدا أن تصطرع التيارات الفكرية والأحزاب السياسية في كل الأزمنة والعصور، والمشهد المعاصر في العالم العربي جزء من هذا التاريخ في صراع الأفكار والمناهج والرؤى والمصالح، واستحضار تاريخ وطبيعة هذه التيارات والأحزاب والأفكار ولو جزئيا هو عامل مهم في أي محاولات جادة تطمح لمزيد فهم ودقة تحليل.

وفي ظل الربيع الأصولي العربي يجدر استحضار شيء من تاريخ جماعات الإسلام السياسي التي استولت عليه، وبالعودة إلى التاريخ الحديث بمصر حيث كانت هي الدولة الرائدة عربيا في كافة المجالات في القرن التاسع عشر وغالب القرن العشرين، فإننا نجد أنه وصولا لحقبة الأربعينات والخمسينات كان ثمة ثلاثة تيارات تصطرع في المجال الثقافي والديني والسياسي هي: أولا المثقفون ذوو الطرح الديني الجديد والمتعمق في التراث. ثانيا: مؤسسة الأزهر والطرح الفقهي والعقدي التقليدي. ثالثا: جماعة الإخوان التي صنعت خطابا هجينا سنأتي على تفصيل بعض جوانبه.

أما المثقفون والمفكرون والأدباء فقد اتجه عدد غير قليل منهم في تلك الفترة إلى التأليف الديني بعد صولات وجولات فلسفية وفكرية وأدبية خاضوها طوال حياتهم، فقدموا إنتاجات ضخمة في قراءة التراث في تلك المرحلة، إنْ عبر شخصيات كما صنع عباس العقاد في سلسلة «العبقريات»، وإنْ عبر تناول السيرة النبوية والمراحل الأولى من تاريخ الإسلام كما فعل طه حسين في «على هامش السيرة» و«الشيخان» و«الفتنة الكبرى»، وإنْ عبر التاريخ الإسلامي بشكل عام كما كتب أحمد أمين في سلسلته «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام» و«يوم الإسلام»، أو غيرها من أنواع الإنتاج التي لم تقتصر على التأريخ فحسب بل سعت لبلورة تأويلات وصناعة خطابات وتقديم قراءات تتناول الإسلام بشكل عام برؤية جديدة، غير أن إنتاجهم بقي متداولا في مستويات نخبوية معينة.

والأزهر – كذلك – لم ينجح طرحه وخطابه في الانتشار لأنه تشبث بتقليديته وجموده الذي وصفه كثير من المؤرخين والدارسين، ولاستعصائه على محاولات التطوير منذ حسن العطار شيخ الأزهر في ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى محمد عبده ومشروعه لإصلاح الأزهر، وكان لاستتباع السلطة للأزهر وبخاصة في زمن العسكر دور في خفوت صوته وقلة تأثيره.

أما خطاب الإخوان المسلمين فقد حظي بالانتشار والتأثير، والسؤال الذي يجب أن يثار هنا هو: لماذا انتشر فكر حسن البنا وخطاب جماعته بينما لم تنتشر هذه الأفكار والخطابات التي هي أرقى فكريا وأكثر التزاما بالمناهج العلمية والتصاقا بشروط البحث العلمي؟

ولماذا ذهبت محاولات المثقفين الكبار الجادة في قراءة التراث وصناعة خطاب ديني جديد وعقلاني فيما يشبه أدراج الرياح بينما نجحت جماعة الإخوان في نشر خطابها؟

هل هي الآيديولوجيا الصارمة والعرض السهل، أم التنظيم المتماسك، أم الخطاب المرن الذي يلبس لكل مرحلة لبوسها؟

يبدو أن الجواب خليط يشمل هذا كله، فلئن كان صحيحا أن سعة المعرفة ودقة المنهج العلمي وتماسك الخطاب المطروح شديدة الأهمية في طرح المثقف والمفكر، إلا أن هذا لا يضمن بحال قوة التأثير ونفاذ الفكر وشيوع الخطاب.

موارد الفكر الإخواني بشكل عام وحسن البنا بشكل خاص لها عدة مصادر، المصدر الصوفي وقد تحدث عنه حسن البنا وغيره من رموز الإخوان، والمصدر السلفي له أكثر من مصدر أهمها محب الدين الخطيب والمكتبة السلفية ومحمد رشيد رضا، كما أن والد حسن البنا عبد الرحمن الساعاتي يعتبر سلفيا لكونه من أهل الحديث وعمله في ترتيب مسند الإمام أحمد المسمى «الفتح الرباني» مشهور لدى التيارات السلفية وأهل الحديث منهم تحديدا.

حسن البنا باني تنظيمات بارع ولكنه ليس منتج أفكار، ومجمل الخطاب الإخواني الذي تبناه حسن البنا والإخوان عموما قبل سيد قطب وبخاصة في شق تسييس الدين أو بالأحرى التخريجات والتأويلات الجديدة للفقه فيما يتعلق بالشؤون السياسية ودور رجل الدين فيها هي لدى حسن البنا تتصل بخط واضح يبدأ من موقف عمر مكرم مع خورشيد باشا والتبرير الديني للانقلاب عليه مع محمد علي، ثم رفاعة الطهطاوي في شق غير صغير من فكره ثم جمال الدين الأفغاني المثير للكثير من الجدل والذي يبدو أن البنا كان ينظر له كنموذج يريد أن يحتذيه ومحمد عبده في مرحلته الأولى قبل أن يعود عنها ويطلق عبارته المشهورة «لعن الله ساس ويسوس وسياسة».

لم يكن لدى حسن البنا ما كان لدى جمال الدين الأفغاني من العلم والمعرفة ولا من قوة الشخصية ونفوذ التأثير، ولكن يبدو أن الأفغاني كان حاضرا كثيرا لدى البنا في مشروعه، فبعد فكرة توسل الدين لتحقيق أغراض سياسية والمشار لها أعلاه فقد حاول البنا تقليد الأفغاني في كثير من الأمور، ففي حين أنشأ الأفغاني بعد تركه للمحفل الماسوني ما كان يعرف بـ«المحفل الوطني الحر»، فقد أنشأ البنا جماعة هي جماعة الإخوان المسلمين، وحين خطط الأفغاني وعبده لاغتيال الخديو إسماعيل كما تورد المصادر ومنها «عمائم ليبرالية» فقد أسس البنا تنظيما سريا كاملا للاغتيالات والتفجيرات، وحين تآمر الأفغاني لخلع الخديو إسماعيل بالتعاون مع الفرنسيين وولي العهد الأمير توفيق، فقد تآمر البنا مع بعض آل الوزير في اليمن لخلع الإمام يحيى فيما بات يعرف بثورة 1948، وحين كان الأفغاني يتلاعب في مواقفه السياسية مع كافة الأطراف في كل بلد أقام فيه، فقد فعل البنا الأمر عينه حيث تراقص في تحالفاته بين القصر وحزب الوفد والأحزاب الأخرى والإنجليز، وأخيرا فكما أنشأ الأفغاني العديد من الصحف، فعل البنا الأمر ذاته.

هذه مجرد أمثلة سريعة توضح حجم التشبه بالأفغاني الذي أحسب أن البنا كان واعيا به ويسعى له مع عدم إغفال مساحة الاختلاف التي تحتمها المرحلة التاريخية والظروف المتغيرة والمعطيات المختلفة التي عاشها كل منهما بطبيعة الحال، ومن أهم الاختلافات بين الرجلين أن الأفغاني كان عالما ومفكرا وكان يستهدف النخبة دائما ويسعى لصنعها والانطلاق منها، بينما لم يكن البنا عالما ولا مفكرا، ومن هنا فقد كان – فقط – يلاعب النخبة السياسية الموجودة كالملك وحاشيته والنحاس باشا ونحوهم، ويتملق النخب الثقافية كما في حديثه مع طه حسين أو في محاولته استمالة أحمد أمين.

أخيرا، هذه بعض الجوانب التي لم يتم التركيز عليها سابقا في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط