«الملكية الفكرية» سر الاقتصاد الجديد

آراء

الملكية الفكرية باتت مكوّناً راسخاً في الاقتصاد الجديد، ولا وقت لإقناع من ينكر ذلك، فالأبحاث والابتكارات تُحكم القبضة أكثر فأكثر على الأسواق، والحديث يسري عن تطور قوانينها وأنظمة حمايتها.

الدول التي كانت تتباهى بثرواتها الطبيعية وعمرانها وصناعاتها الثقيلة، نزلت، ولو قليلاً، عن رأس قائمة التنافسية العالمية. والصراع اليوم بات صراعَ عقولٍ معاركُه مستعرة مغانمُها أفكار مبتكرة تأتي بمنتجات أو خدمات جديدة أو تضيف مزايا على منتج قائم أو خدمة.

والتفوق الاقتصادي أصبح يتحدد بصناعات تقوم على «المعرفة». وكلمة السر في هذا التفوق هي «حماية الملكية الفكرية»، فمن دون تنظيم لحقوق الملكية الفكرية تبقى الرغبة في الابتكار والاكتشاف والبحث معدومة، ومن دون هذه الثلاثة فإن أي اقتصاد سيكون غير فعّال وغير منتج، لأنه على الأقل لا يحمل ميزة تنافسية.

ومن مزايا الحفاظ على الملكية الفكرية، أنها تتيح دائماً دخول منافسين جدد في السوق، ما يرفع سقف المنافسة الذي بدوره سينعكس إيجاباً على الجودة والسعر. وسيكسر احتمالات الاحتكار والتحكم في الأسواق.

إن الشخص المنتج ومالك الفكرة لا يستطيع حماية ما ينتجه ولا يستطيع الاستفادة منه تماماً، لأن من دون الحماية لا عائد مادياً ولا سمعة يتلقاها إزاء عمله، لا بل قد يستفيد من أفكاره آخرون وهو مكتوف اليدين!

إننا نعيش عصر «اقتصاد المعرفة»، وفيه تُستخدم المعرفة لإنتاج فائدة اقتصادية وخلق منفعة أعمّ ووظائف أكثر، ففي حين كانت الأرض والعمالة ورأس المال تشكل العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، أصبحت الأصول الفعلية في الاقتصاد الجديد المعرفة والابتكار، وبات رأس المال غير ملموس يعتمد على المعرفة، ويُعرف بـ«رأس المال المعرفة»، وأصبح هو العامل المقرر للنجاح الاقتصادي.

وتبيّن التقارير التي تقدمها المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) WIPO، أن الأصول غير الملموسة في أوروبا تمثل 40 إلى 60 في المئة من الثروات، وهي في الولايات المتحدة تمثل أكثر من ثلاثة أرباع قيمة الشركات الحكومية، أي ما نسبته 80 في المئة من القيمة السوقية للشركات الأميركية يأتي على هيئة أصولٍ غير ملموسة.

تأثيرات الملكية الفكرية…

خسرت الشركات الأميركية مئات البليونات من الدولارات وملايين الوظائف، ذهبت بمعظمها إلى شركات صينية استولت على أفكارها أو برمجياتها، أو أجبرتها على تسليم حقوق الملكية الفكرية لتنفيذ الأعمال في الصين. وقد قدّر أحدث تقرير اقتصادي مستقل أجرته «لجنة دراسة القرصنة الفكرية» المستقلة الأميركية للعام 2017، خسائر الاقتصاد الأميركي بنحو 600 بليون دولار سنوياً، ويؤكد التقرير أن القرصنة على حقوق الملكية الفكرية ما زالت تمثل تهديداً كبيراً للاقتصاد الأميركي، وتنعكس خسائر هذه القرصنة التي تقدّر قيمتها بما يزيد على 250 بليون دولار في صورة سلع مقلدة وبرامج كمبيوتر منسوخة وسرقة الأسرار التجارية التي يمكن أن ترفع التكلفة إلى 600 بليون دولار. وهذا من الأمور التي جعلت الرئيس دونالد ترامب يزداد حرصاً على عدم تسرب التقنيات الأميركية إلى الصين، تماماً كالحرص على الأسرار العسكرية. ذلك أنه في تلك التقنيات يقبع مستقبل الاقتصاد الأميركي، ومن البديهي ألا يُسمح بانتقالها إلى دولة منافسة اقتصادياً. ولعل هذا ما يفسّر حماسة الولايات المتحدة في الترويج لحماية الملكية الفكرية على أكثر من صعيد.

وتظهر أيضاً أهمية الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية في السعي الحثيث للدول الكبرى إلى امتلاك هذا النوع من الحقوق وصيانتها، وتالياً، فهو سعي إبداعي قانوني اقتصادي في المجمل.

… وسبل التعامل معها

وضع التطور الهائل الذي يشهده العالم عبئاً كبيراً على قدرة الأنظمة، محلياً ودولياً، على إدارة حقوق الملكية الفكرية وحمايتها وتكريسها لخدمة المجتمع بفاعلية. ذلك أن التوصل إلى أنظمة واضحة وصارمة سيؤدي إلى تعزيز النشاط التجاري، واستقطاب الشركات العالمية نحو الاستثمار في الأسواق المحلية، بما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي، ويزيد الدخل المحلي.

في 2011، أجرت غرفة التجارة العالمية دراسة عن مجال حقوق الملكية الفكرية، ذكرت أن هناك 2.5 مليون وظيفة شرعية تتعرض للتهديد كل عام نتيجة لعدم احترام حقوق المؤلف، وبحسب الاتحاد العربي لحماية حقوق الملكية الفكرية في 2009، أكثر من 50 بليون دولار سنوياً كان بلغ حجم الخسائر التي يتكبدها السوق العربي بسبب الاحتيال على الملكية الفكرية. في الوقت نفسه وفي الولايات المتحدة، فاقت الدعاوى القضائية الصادرة عن متصيدي براءات الاختراع نسبة ثلاثة أخماس جميع الدعاوى القضائية المتعلقة بانتهاك حقوق الملكية الفكرية. وتلك كلفت الاقتصاد ما يقدر بنحو 500 بليون دولار في الفترة 1990 و2010.

وحجم التجارة في السلع المزيفة، في 2010، بلغ 760 بليون دولار في العالم، وحقق نسبة أرباحٍ بلغت 800 في المئة، في حين أن الأرباح من تجارة الهيروين، في العام نفسه، بلغت 400 في المئة، وإذا أخذنا في الاعتبار حجم الخطورة، فإن التجارة في السلع المزيفة أقل خطورةً وأكثر ربحاً من تجارة المخدرات، خصوصاً أن غالبية قضايا الملكية الفكرية وحقوقها، تصبح عديمة النفع إذا أثبت مَن وُجِّهت إليه التهمة حسن نيته وأنّه لم يقصد الإضرار بصاحب حق الملكية الفكرية.

في الوقت نفسه، لم يتمكن بعد واضعو القوانين الناظمة لحماية حقوق الملكية الفكرية من مواكبة التطور السريع لتكنولوجيا المعلومات والثورة التي أحدثتها في التقنية، حتى اضطر الأمر إلى إعادة تعريف كثير من المفاهيم الخاصّة بالملكية الفكرية، ووضع قوانين ملائمة تكون قادرةً على متابعة زخم الابتكارات والأفكار وقواعد البيانات في الفضاء الرقمي.

إن بتّ مسائل جديدة دائماً من مسائل الملكية الفكرية ينبثق من التغيرات التكنولوجية والمجتمعية التي تطرأ بوتيرة تفوق وتيرة تطور التشريعات والسياسات العامة. فكيف يتصدى واضعو الأنظمة لذلك؟

من وجهة نظري، يجب على الحكومات أن تؤدي دوراً أكثر صرامة ودقة، يبدأ بالتوعية ولا ينتهي بإعادة النظر في الجزاءات، وأن تبذل جهوداً في تحسين عمل المنظمات والمراكز ومتابعتها، وأن تدخل مفاهيم الملكية الفكرية في المناهج التعليمية، وأن تلفت إلى ضرورة الاستثمار في البحث والتطوير وتغطيتهما قانونياً، ودعم حاضنات ومسرعات الأعمال وكل الجهات الداعمة للبحوث والابتكار.

والأهم من ذلك كله، أن تحرص الحكومات على التعاون الدولي من خلال توقيع المعاهدات والاتفاقات والبروتوكولات الدولية في هذا الخصوص حتى تبنى عليها القوانين المحلية، وفقاً لـ «مبدأ تدرج القوانين».

وحتى التوقيع لا

المصدر: الحياة