تجربة سنغافورة والنموذج المتخيل عربيا

آراء

بدأ «لي كوان يو» مؤسس سنغافورة الحديثة كتابه الضخم «من العالم الثالث إلى الأول: قصة سنغافورة: 1965 – 2000» بخطاب لجيل الشباب «الذين اعتبروا الاستقرار والنمو والرخاء قضايا مسلما بها»، مذكرا إياهم: «لا نستطيع تجاهل حقيقة أن النظام العام والأمن الشخصي والتقدم الاقتصادي – الاجتماعي، والرخاء والازدهار، ليست من النظام الطبيعي للأشياء».

كثيرة هي الأفكار التي تثيرها قراءة تجربة مميزة لرجل بنى بلاده من الصفر، وخلق تجربة تنموية تثير الإعجاب لكل من اطلع عليها، حيث واجه بالتخطيط السليم والرؤية الصائبة كل الصعاب والعوائق التي لم تزل تعيق كثيرا من بلدان العالم من صغر المساحة إلى التعدد الإثني بكل ما يرمز إليه من التعدد الطائفي أو القبلي أو الآيديولوجي، وكيفية تعامله معها كمعطيات حقيقية على الأرض يجب مواجهتها وإحسان التعامل معها. من أهم تلك الأفكار التي تفرض نفسها على القارئ العربي المقارنة بين تجربة سنغافورة وما يجري في العالم العربي، بعد ما كان يسمّى بـ«الربيع العربي»، فكم نحن بحاجة لتذكير جيل بأكمله في العالم العربي بأهمية الاستقرار السياسي والتنمية والأمن والتقدم ضمن برامج وخطط عملية بعيدا عن الشعارات العامة والجوفاء التي تتلقفها عقول النخب من أفواه الجماهير وعقول الجماهير من مجاملات النخب.

لقد كان واقعيا صرفا في قيادة بلاده، فكان مشروعه واضحا ورؤيته صافية، وهو يضع دائما لكل مشكلة حلا عمليا، ولكل صعوبة برنامجا، ولكل تحدٍّ خطة، وهو أخطأ في بعض قراراته وبعض سياساته، ولكنّ ذلك لم يمنعه قط من المراجعة والتغيير والتطوير، وهو تماما على العكس مما يجري في بلدان الاحتجاجات العربية، حيث تتفوق الشعارات الرنّانة على المشاريع العملية (إن وجدت أصلا)، ويميل الناس إلى الآيديولوجيات المنغلقة وينكفئون على أعطاب التاريخ ومكتنزات التخلف فيه.

بقيت النخب العربية سياسيا وثقافيا تفتش عن نماذج عالمية تأرز إليها وتلوذ بها من ضخامة الحجر الذي ألقي في مياه التاريخ العربية، منذ ما ينيف على عامين، فمرة لجأوا إلى استحضار نموذج الثورة الفرنسية، وسيطر عليهم فصار كثير منهم لا يفكر إلا من ثقبه، وبدلا من محاولات تقديم قراءات وتحليلات مستقلة ألجأتهم تعقيدات الواقع إلى ذلك النموذج ليبرروا به ما يتساقط حولهم من ركام أحلامهم وأمانيهم، ولكن لي كوان يو كان واضحا منذ البداية في سعيه لخلق نموذج جديد لسنغافورة، وكان مصرا على أن تلك النماذج في الغرب والشرق ليست نافعة لسنغافورة، وأنه يجب عليه أن يخوض سبيلا جديدة ونموذجا خاصا لا يشبه الآخرين، ولكنه لا يمتنع عن الاستفادة من تجاربهم.

لم تكن خيارات السياسة وقراءة التحالفات الدولة سهلة أبدا إبان الحرب الباردة، وهو يقول إنه «خلال الحرب الباردة في الستينات والسبعينات، حين لم يكن من الواضح أبدا لأي من المعسكرين ستكون الغلبة، قمنا برص الصفوف مع الغرب.. وبحلول أواخر الثمانينات بدا من الواضح أننا في معسكر المنتصرين»، وهو ما يذكرنا في التاريخ العربي المعاصر كيف أن الجمهوريات العربية انحازت في غالبيتها العظمى للمعسكر الشرقي، وأذاقت شعوبها ويلات الديكتاتورية وويلات الهزيمة، بعكس الملكيات العربية، وتلك قصة لها سياق آخر لتوضيحها.

بعكس عدد من كتّاب المذكرات العرب من ساسة أو مثقفين، فقد كان صادقا في التعبير عن نفسه، وعن مخاوفه ومشاعره على جل صفحات الكتاب، وأبان عن قدرة مدهشة في قراءة المشهد الدولي بين بريطانيا الهابطة وأميركا الصاعدة، وكذلك في قراءة المشهد الداخلي بين المتطرفين المتعصبين لعرقهم والشيوعيين الأقل خطرا في وقته آنذاك، وها نحن نجد كثيرا من الساسة في دول الاحتجاجات العربية لا يتخبطون في قراءتهم للمشهد الدولي إلا بقدر ما يضطربون في مواجهة المشكلات الداخلية، وهم في كثير من الأحيان وبدافع من قلة التجربة وكِبْرِ الآيديولوجيا يزيدون الطين بلة، وبلادهم ضغثا على إبّالة.

من السهل في دول الاحتجاجات العربية والسلطات الأصولية الجديدة فيها أن نرى الدستور والقانون ملعبا لمكاسب حزبية صغيرة، وأن تتم محاصرة القضاء والتهجم عليه نظريا، وإعلاميا، وعمليا على الأرض، بينما نجد لي كوان يو يقول بصراحة: «كنت مصمما على توضيح الحقيقة للجميع، خصوصا الصينيين الذين يشكلون الأغلبية الآن، بأن الحكومة ستطبق القانون بعدالة ونزاهة على الجميع، بغض النظر عن العرق أو الدين».

معلوم أن المقارنات يعتريها دائما عدم مراعاة المتغيرات العديدة على المجالات كافة، ولكنني أحسب أن شيئا منها قد يساعد على فهم أدق لمشهد معقد، وعلى توضيح بعض الرؤى التي تضيع في زحام التفاصيل، وهي مفيدة كذلك في خلق أسئلة جديدة وفتح آفاق تمنح زوايا مختلفة عن حجب الطرح المعتاد.

إن الذين يقللون من حجم وكمية المجادلات التي ينبغي طرحها ومواجهتها في المجتمعات العربية بعد الربيع الأصولي العربي، إنما يحسبون أن وضع الرؤوس في الرمال أجدى من مواجهة الواقع والاعتراف بأخطائه وخطاياه، بينما الواجب هو إثارة الجدل وطرح الأسئلة وتنويعها وصولا لأجوبة أصوب ورؤى أرحب.

إننا حين نطرح في العالم العربي نظريات الغرب الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونحاول الانطلاق مما وصلوا إليه، ونحن لم نعانِ نظريا ولا واقعيا التحديات التي واجهتهم، ونريد بالتقليد وحده أن نكون مثلهم، فإننا نسير على طريق مسدود منذ البداية. حين يجادل البعض، في العالم العربي أو في الغرب، بأن النموذج الغربي في الحكم هو الحل الوحيد واجب التقليد والفرض على دول ومجتمعات شديدة الاختلاف عن الغرب، فإنهم إنما يعبرون عن كسل ذهني، في محاولة خلق نماذج تتسق مع سياقنا التاريخي والحضاري.

أخيرا، كم هو جدير بالاستحضار ما كتبه وزير الخارجية الأميركي المخضرم هنري كيسنجر في خاتمة تقديمه للكتاب: «لن يكون لي كوان يو صادقا مع الذات لو لم يلجأ إلى الصراحة التامة في تحليله للفارق المميز بين فردانية الغرب وأولوية اللحمة الاجتماعية في بلاد مثل بلده ومعظم أقطار آسيا الأخرى. لم يطلب منا تغيير أنماطنا الغربية، بل الامتناع عن فرضها على مجتمعات تتباين في تاريخها وحاجاتها الضرورية».

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط