جميل الذيابي
جميل الذيابي
كاتب وصحفي سعودي

جدار الماء (سؤال الموت!)

آراء

الكاتب المتألق والزميل المشاغب جاسر الجاسر حرّضني على كتابة هذه المقالة بعد مقالته المُعنوّنة بـ«قاتل الله الأصدقاء»، تحدث فيها عن كيف تحوّل أصدقاؤه وزملاؤه إلى كتّاب كوارث، إذ يقول في مقالته إن جميلاً لا يستفزه للكتابة سوى وقوع حرب أو حدوث تفجيرات.

خلال الفترة الماضية يسألني أصدقاء وقراء كرام عن أسباب عدم الكتابة إلّا في الملمات. وعندما زرت ناشر هذه الصحيفة الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز في مكتبه بالرياض أخيراً سألني: «لماذا لا أراك تكتب في الفترة الأخيرة؟»، وعلى رغم التطورات الإقليمية، وتسارع الأحداث، وتشابك المواقف الدولية، وظهور «دواعش» في الداخل كما في الخارج، حقاً لم أجد إجابة «كاملة الدسم»، ولا كلمات كاملة الدسم أيضاً تعبّر عن حال القهر الإنساني من وضع «مأسوي» يرى فيه المجتمع الدولي المذابح والمجازر الجماعية بحق نساء وأطفال أبرياء ويصمت، حتى اختلطت العبارات بـ«العبرات» على صفحات سوداء في تاريخ البشرية.

خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حذّر قبل فترة قليلة الأسرة الدولية بقوله: «سيشهد التاريخ على هذا الصمت العالمي».

للأسف، تجلس أمام شاشة الكومبيوتر تتأمل الأرقام والحروف، ويطل وجه صفحة «دموية» تتجدد كل دقيقة. تحاول أن تكتب، فتتسلل الكلمات والأرقام من بين أصابعك وأنت في «غيبوبة». تحاول القبض على تلك الحروف الهاربة مع سبق الإصرار، فتجدها متلبسة صفة «الموت»، وكل القبيلة الأبجدية تلبس السواد، وكأنها تروي فصول المشهد «التراجيدي» في العراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان. تتمكّن بعد محاولات عدة من القبض على الحرف الأول، فيفر الثاني سريعاً.

تحدّق في أناملك مرة أخرى، وتتساءل: ماذا أصابها؟ ما الذي جعلها «واهنة مستكينة» غير قادرة على نقر الحروف، وإن فعلت أخطأت الرقم الصحيح؟

تتساءل بينك وبين نفسك: ماذا لَحَقَ بجمجمتي وفكرتي التي كنت أريد تدوينها؟ هل نحن في عالم تحكمه شرائع الغاب وقروش كبيرة تلتهم أسماكاً صغيرة؟ لا تجد إجابة! تعاود التحديق في الشاشة الصغيرة، ثم «تضرب» الحرف الثاني بقسوة بعد معاناة «المخ» و«المخيخ»، فتهرب منك كل «الأسماء والصفات والبلدات»، خشية إضافة مشهد دموي جديد، يصيبك بـ«الكآبة» والحزن والألم!

ترفع يديك عن «الكيبورد» مزمجراً، تلتقط القلم محاولاً إعادة المجد والهيبة للنديم القديم، ثم يتسلل حبره من بين أصابعك وكأنه يقول بصوت عال: «أعتقني من كتابة مشهد سياسي سريالي ومواقف دولية بغيضة». يرفضك القلم ويغلق فمه بـ«الضبة والمفتاح».

يصرخ: «أنت ناكر جميل، كيف تحاول أن تكتب بحبر الدَّم»! تضعه جانباً بسرعة لتقرأ بيت أبو الطيب المتنبي:

وقد حاكموها والمنايا حواكم..

فما مات مظلوم ولا عاش ظالم.

ترفع النظر شطر السماء مشبكاً أصابعك، حتى لا يمسح الرذاذ كُحل البراءة من وجه طفلة يتيمة لم يتبق منها سوى دموع تطوّق الكون بالخجل.

تردّد البيت مرات عدة، فلا تجد أمامك إلا تلك الشاشات الفضية المشؤومة، وكلها مشاهد لأخبار القتلى والجرحى وروايات الحزن وأفواه مكلومة فارة من الموت، وأطفال يسبحون في بركة دم وأم تحضن صغيرها على فوهة قبر، فيما الإرهابيون ينشدون «يا عاصب الرأس وينك؟».

تحاول انتشال عينيك من «دموية» المشهد، فتبدأ في استعراض الصحف ومواقع التواصل، محاولاً البحث عن أخبار تفرّج الهم وتزيل الغم، فلا تجد إلا أخبار المجازر والتفجير والتدمير أيضاً.

تنهض من ذلك الكرسي، معتقداً أنه «مشؤوم»، وتبحث عن وجوه الأصدقاء، فتجدهم غارقين في بحر همومهم وجنونهم وتسويق عصافيرهم يدلون بتحليلات في كل شأن من على كراسي قلقة! فتردد بيتاً آخر:

فإن رأيت دموعي وهي ضاحكة..

فالدمع من زحمة الآلام يبتسم!

تخرج من بوابة ضيقة كـ«فوهة قبر» مسرحها «الموت والحياة»، لا تعرف إلى أين أنت ذاهب، فتجد نفسك «عاجزاً»، تحدّث نفسك وتلعن الصنم، وكأنك «جننت» من أخبار القتلة وجرائم «داعش» و«القاعدة» و«الحوثي» و«حزب الله» و«النصرة»، تشهق وتزفر «ميتاً». ثم تدوي بصرخة لا صدى لها، ولا يسمعها غيرك.

تتوقف في زاوية المقهى القديم، وتجلس على سراج السماء «تتجاسر»، على أمل أن تبدأ رحلة غير مرسومة لوحاتها تحقن دماء أبرياء!

عذراً أصدقائي، المقالات باتت تُقرأ بلا عناوين وبلا حروف وبلا نقاط. «صمت العالم» عن إنقاذ نساء وأطفال أبرياء من طغاة وقتلة استغلوا الدين للتجنيد والتحريض على الذبح وجز الرؤوس وترهيب وترويع الآمنين وإبادة العرقيات والقوميات وافتعال الطائفية والمذهبية. كيف يمكن أن تكتب وأنت لا تشاهد سوى الموت وميليشيات، أعضاؤها مجرمون يقتلون باسم الدين عبر تسويق الوهم والأكاذيب!

المصدر: الحياة

http://ow.ly/DuYJE