جمهورية رجال الدين بين خاتمي والخميني

آراء

كل الوقائع السياسية تدل على أن الرهان على الزخم الجماهيري لصناعة واقع ديمقراطي، غير مجد، وسينتهي هذا الرهان بفشل ذريع؛ ما لم تكن هذه الجماهير قد ارتقت في وعيها إلى الحدود الدنيا من الوعي بشروط الحرية أولاً، وبمبادئ الديمقراطية ثانياً، وبالاستعداد للنزول على هذه الشروط وهذه المبادئ – بكل ما يستلزمه ذلك من التضحية بالعلائق التقليدية وبالرؤى الموروثة – ثالثاً. فالجماهير التقليدية التي تشبّعت رؤاها بالتصورات الكليانية الشمولية، وبالبطل الكاريزمي المنقذ، لا يمكن أن يحركها إلا بطل تقليدي شمولي، ولا يمكن أن تدفع إلا في اتجاه حراك تقليدي شمولي ذي طابع استبدادي. وبالتالي لا يمكن أن تصنع ديمقراطية، ولا حتى شبه ديمقراطية، بل المرجح أنها ستصنع – بثورتها الاحتجاجية/ الغضبية – واقعاً أسوأ من الواقع الذي ثارت عليه، خاصة فيما يتعلق بمسيرة الحريات وحقوق الإنسان.

من هنا، فإن الجماهير التي يحكمها وعي رجال الدين السلفيين في إيران، هي – كما يؤكد حازم صاغية – بروليتاريا رَثّة، تتشكل من عاطلين عن العمل، ووافدين حديثاً من أريافهم. (الانهيار المديد، حازم صاغية،ص204). ما يعني أنها جماهير أمية وشبه أمية، لديها القابلية لاستقبال الأطروحات السلفية التقليدية المشبعة بالخرافة وبالحماس وبالتضليل الإيديولوجي. إنها ليست جماهير الوعي التقدمي المتجاوز لواقعه، بل هي جماهير الوعي الماضوي المنكفئ إلى ما دون واقعه الطبيعي في مسار التاريخ. ولهذا لم يكن غريباً أن “أسقطت تلك الجماهير، وعلى رأسها الخميني، إمكانية التوصل إلى بديل عصري وديمقراطي عن نظام الشاه” (الانهيار المديد، حازم صاغية،ص204)؛ لأنها – كجماهير، وكقيادة جماهيرية ماضوية – لا تنتمي – وعياً – إلى العصر الحديث/ العصر الديمقراطي.

لنتأمل واقع هذه الجماهير التي صنعت – أو أرادت أن تصنع – ثورة تحرّرية؛ولكنها جاءت على هذا النحو البدائي/ السلفي في تصورها لنظام الحكم وللحريات وللعلاقة مع الآخر. هي بإجماع المراقبين كانت كذلك يوم تجمهرت قبل خمسة وثلاثين عاماً. والآن، لنتساءل: هل هي – من حيث موقعها الرؤيوي الراهن – محكومة بالوعي السلفي الماضوي نفسه، والذي لم يكن الخميني إلا الناطق باسمه؛ على الرغم من كل ما لشخصيته من تأثير استثنائي وعميق في مسيرة الوعي الجماهيري؟. أقصد: هل تجاوز الوعي الجماهيري الراهن ماضويته التي كانت تحكمه في سنوات الثورة الأولى، تلك الماضوية التي قادته إلى اعتماد الخميني زعيماً كاريزمياً ملهماً، بل وناطقاً بلسان السماء؟!.

لا شك أن أكثر من ثلاثة عقود أحدثت مستويات من التغيير عند شرائح كثيرة من المجتمع الإيراني. لا نتحدث فقط عن الذين ناصروا الثورة، ولكنهم تراجعوا؛ بعد أن اتضح لهم الطابع الاستبدادي الثيوقراطي لولاية الفقيه المطلقة. إننا نتحدث عما هو أعم وأشمل، نتحدث عن جيل نشأ وتكوّن وعيه في ظرف مغاير، جيل لم يعش فوران الثورة، ولم يندمج في شعاراتها على مستوى الفعل. لكنه نشأ على مناهجها، وفي ظل حكومة شمولية من نتاجها. وهو في النهاية، وعلى الرغم من حيويته، ليس هو الفاعل الأهم، لا في الفضاء السياسي ولا في الفضاء الاجتماعي. فرجال الدين الذين كانوا شبابَ الثورة قبل ثلاثة عقود، لا يزالون في الساحة فاعلين، لا يزالون رجال المرحلة، لا يزالون هم الآباء المربين، والمعلمين المؤدلجين، إنهم اليوم مديرو الإدارات العامة وقادة الأجهزة الضابطة، والمشرفون على الإرشاد الديني/ الثقافي، وأصحاب رؤوس الأموال…إلخ.

لا يزال رجال الخميني يتسيّدون المشهد على الرغم من وجود التيار الإصلاحي الذي يتعاطف مع الشباب، أو يتعاطف الشباب معه؛ لأنهم لا يجدون غيره متنفساً للتعبير؛ مع علمهم – في الوقت نفسه – بأنه تيار متردد، بل وخائف، لا يستطيع القطع مع الحكم الثيوقراطي.

إن وجود الإصلاحيين حقيقة، وهم اليوم يشكلون أكبر تحدٍ للنظام الثيوقراطي الذي يُهيمن عليه رجال الدين. لكن، وبكل تأكيد، وبعد مرور كل هذه السنوات، لا زالت شعبية الخميني طاغية في شرائح المُتدينين، ولا زال المتدينون يُشكلون زخماً لا يستهان به، ولا زال الإصلاحيون يحاولون الالتفاف – بالتأويل أو بالتنسيب – على الأطروحات الخمينية التي يرونها محافظة، في محاولة منهم للوصول إلى سياسات أكثر تحرراً على المستويين: الاجتماعي والسياسي. فحتى خاتمي – الذي يُمثّل الإسلام الليبرالي – اضطر – في لحظات استقواء المحافظين عليه – إلى التأكيد صراحة على أن ولاية الفقيه هي: “محور ومرتكز النظام” (مصاحف وسيوف، رياض الريس58)، وذلك لأن المؤمنين بالخميني – وبجمهورية ولاية الفقيه- هم وحدهم المسموح لهم بالمعارضة، فالخميني – بشخصه بنظريته – هو المرجعية العليا التي يُمتحن عندها وعليها الولاء لإيران، وليس فقط للنظام.

من الواضح أن “خاتمي الابن الشرعي للثورة الإيرانية، كان في نظر كثيرين داخل إيران وخارجها الفرصة الأخيرة للنظام السياسي الإيراني، للانتقال بمنظومته من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة” (حدائق الأحزان، مصطفى اللبّاد،ص271،). لكن، هذه الفرصة تبددت، بل تبخرت؛ بفعل السيطرة الكاملة لرجال الدين المتزمتين على كل مؤسسات صنع القرار، تلك المؤسسات التي ترجع – بكل خيوطها – إلى المرشد/ الولي الفقيه، الذي هو المتضرر الأول والأكبر من كل خطوات الإصلاحيين. وهذا يعني – بداهة – أن الولي الفقيه لن يَسمح بأن يدق خاتمي وأنصارُه مسماراً في نعش ولاية الفقيه التي تضمن له ولرجال الدين الهيمنة الكاملة على كل تفاصيل الحياة في إيران.

المشهد الإيراني معقد بتفاصيله، لا بخطوطه العامة، من حيث التقاطع بين المحافظين والإصلاحيين. يتحدث راي تاكيه في كتابه (نشوء الإسلام السياسي الراديكالي وانهياره، ص64 ) عن أن ولاء معظم ضباط الحرس الثوري الكبار للمحافظين، بينما صوّت 70% من صغار الضباط في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (= انتخابات الفترة الثانية لرئاسة خاتمي) من القوات المسلحة وأعضاء الحرس الثوري لصالح خاتمي. وهذا يدل على أننا أمام جيلين، كل منهما يأخذ – رغم التداخل الذي لا يمكن التغاضي عنه – طريقاً سياسياً مغايرًا. فالجيل الأكبر، الذي وصل إلى الرتب القيادية (والذي هو بالضرورة من أنصار ثورة الخميني بحكم المجايلة، ومن ثم التأثر المباشر، فالولاء؛ فضلاً عن الانتفاع المادي والمعنوي المباشر) هو الجيل الذي يرى من مصلحته استمرار الوضع الراهن. بينما الجيل الأصغر، الذي نما وعيه بعيداً عن الوهج الثوري، بعيداً عن لحظة الانعتاق من هيمنة الاستبداد الشاهنشاهي ذي الطابع الارستقراطي المعزول عن هموم وأحلام الجماهير، هو الذي يرى ضرورة التغيير.

ينتمي خاتمي من حيث المبدأ إلى سلك رجال الدين، أي إلى المحافظين الذين يتمثلون مشروع الخميني، فهو مُعمم، وخميني إلى حد ما. من حيث المبدأ هو كذلك، ثم من حيث مشروعية موقعه السياسي/ الديني؛ حتى وإن كان يتبنى رؤى إصلاحية ذات طابع تقدمي انفتاحي – نسبياً -، رؤى تحاول تجاوز الواقع الراهن المنغلق على الرؤى الخمينية إلى مزيد من الانفتاح. خاتمي مشدود إلى جيلين: إلى جيله الذي هو جيل الثورة، وإلى الجيل الجديد الذي حطمت الثورة أحلامه. خاتمي – كما يؤكد رياض الريس – ممزق بين ولائه الجذري لمبادئ الثورة، وبين التزاماته تجاه تحسين أوضاع شعبه الذين صوتوا له.(مصاحف وسيوف، رياض الريس 79).

يبدو أن خاتمي تجاوز خُمينيته على مستوى الوعي المباشر، وأراد الانعتاق؛ ولكن شروط الفعل في الواقع كانت تتطلب منه أن يكون على اتصال حميم بماضيه، وبمبادئ الثورة الخمينية التي تحكم نظام الحكم. إنه يتحرك من داخل شروط النظام؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. ولا يخفى أن محاولته إقامة علاقة سياسية/ تثاقفية مع العالم الغربي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، كانت تقوده إلى تقوية مسارات الحرية والديمقراطية في إيران. فالاعتراف بأهمية الحضارة الغربية، التي هي مصدر الإلهام الديمقراطي، والتأكيد الدائم على دورها الهام في التأسيس للضمير الإنساني المعاصر، يعني أن الخمينية الكامنة – كمرجعية وعي لخاتمي – تتراجع إلى الهامش. ولأجل التواصل مع هذا الأفق الحضاري الغربي، لم يستنكف خاتمي أن يمتدح بكل صراحة ألد أعداء الثورة الخمينية؛ فيقول: “الحضارة الأميركية تستحق الاحترام. عندما نقدّر جذور هذه الحضارة، تصبح أهميتها أكثر وضوحاً”(حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي ص283). إنه يُثمّن الطاقة التحررية (الفكرية = الحضارية) التي أسست للديمقراطية في أميركا، ويستشعر أهميتها من حيث ما يراه من نتائجها على أرض الواقع. ولا شك أنه يدرك مدى حاجة إيران إلى مثل هذه الطاقة التي لا تتأتى إلا من خلال إقامة علاقات وثيقة مع أميركا خصوصاً ومع الغرب عموماً؛ بحيث تتوسع وتتنوع قنوات المثاقفة؛ فيتخلق من كل هذا وعي جديد، يعد بمستقبل جديد في إيران.

وأياً كان الأمر، لا أشك أن خاتمي حسم أمره فيما يخص التوجهات الكبرى، إذ هو على الرغم من تدينه الظاهر، لا يراهن إلا عن مزيد من الانفتاح على قيم العصر/ قيم العالم الغربي. ولكنه – في الوقت نفسه – متردد كسياسي، وتردده راجع – كما يؤكد راي تاكيه – إلى مكانته المحدودة في الهرمية الدينية (نشوء الإسلام السياسي الرديكالي وانهياره، ص66)، حيث محدودية مكانته تجعله في وضع غير حصين أمام المزايدات الدينية لرجال الدين الكبار، أولئك الذين يستطيعون – بما لهم من هلالات القداسة في نفوس الجماهير – أن يحرجوه، وذلك عن طريق توصيف خطواته التحررية/ التقدمية بأوصاف تجعلها تخرج من دائرة المشروع دينياً إلى دائرة اللامشروع، وربما تطور الوضع لتوصيفها بأنها خطوات سياسة معادية للإسلام!.

المصدر: الرياض
http://www.alriyadh.com/1039694