جميل الذيابي
جميل الذيابي
كاتب وصحفي سعودي

رحيل ملك صارم وشجاع

آراء

رحم الله القائد والملك الإنسان عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود..

لقد عاشت المملكة في عهد الراحل، الممتدة فترة حكمه من آب (أغسطس) ٢٠٠٥ حتى ليل أمس ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥، طفرات اقتصادية واجتماعية وتعليمية، وظلت ذات مواقف سياسية ثابتة، لا تهتز ولا تتغيّر، على رغم كثرة تحديات وضغوطات وأزمات المنطقة، التي ما زالت تتواصل لتشكّل إرثاً وحملاً ثقيلاً على الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي فتحت له القلوب، وبايعه مواطنوه محبة وثقة بحسن إدارته كرجل كان دوره لصيقاً بالملوك السابقين ومستشاراً لهم وشخصية مؤثرة داخل الدولة وخارجها.

وبالعودة إلى الراحل، كان الملك عبدالله علامة فارقة في تاريخ بلاده وفي التاريخ العربي، وخلال فترة حكمه جعل للمملكة علاقات دولية صادقة ومميزة وصامدة في وجه أية محاولات لاستغلال الظروف الإقليمية للمس بها أو بأمن دول الخليج أو الدول العربية، حفاظاً على المصير الواحد والتعاون البنّاء والعيش المشترك، ولما يحقق الأمن والسلام، مع رفضه الكامل لأي صغوطات من أي تيارات وأحزاب مؤدلجة تسعى إلى تحقيق مصالحها الضيقة من دون الاكتراث بالآخرين أو الشركاء في الوطن.

كان الراحل السعودي الكبير صاحب حكمة ورؤية واحدة وشخصية تاريخية بامتياز، وكان يعمل حتى قبيل أن توافيه المنية على تنفيذ رؤية استراتيجية متكاملة لبلاده ولأمته، للوصول إلى آفاق أرحب أكثر أمناً واستقراراً، لبناء كيان قوي متماسك يعود بالخير والسلام على الْكُل.

مرّ عهد الراحل الملك عبدالله بتحديات سياسية، وواجهت بلاده أزمات عدة، لكنه رفض الخضوع لأي ضغوطات في شأن ملفات المنطقة الساخنة، سواء أكانت في الداخل الخليجي أم مصر أم سورية أم لبنان، أم حيال برنامج إيران النووي.

ظل الملك الراحل جاداً في الحرب على الإرهاب، عبر توجيه جهود بلاده الأمنية، أو بإطلاق تصريحات قوية ومواقف حادة ضد تصرفات وممارسات جماعات العنف والتطرف، التي تتلبس لباس الدين وهو منها براء، وذلك بتأكيده المستمر براءة الإسلام من أعمال وأفعال تلك الجماعات الإرهابية.

للعاهل السعودي مواقف شجاعة في مساندة الشعوب العربية، ومنها رفض الضغوطات الغربية على مصر بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٢، وآخرها ما ورد في كلمته لتهنئة الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد فوزه بانتخابات الرئاسة بقوله: «إن المساس بمصر هو مساس بالسعودية»، وكذلك رفض بلاده مقعد مجلس الأمن الدولي بعد فوز المملكة به بغالبية ساحقة، بسبب مواقف أعضائه الدائمين، وعدم اكتراثهم بما يجري في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في سورية وفلسطين.

أيضاً تميّز الراحل بصراحته وصدقه وشفافيته، وتحمل المسؤولية تجاه العرب جميعاً، مشدداً على صلابة مواقف بلاده تجاه بعض المواقف الدولية المتخاذلة، والإعراب عن ذلك علانية، وبأن المملكة تُحرّكها مصالحها الخاصة، واعتباراتها الإقليمية والاستراتيجية، وطموحات الشعوب العربية لما فيه مصلحة الأمتين العربية والإسلامية.

في الداخل، وخلال عهد الملك عبدالله، سجلت المملكة موازنات تريليونية ضخمة لم تسجلها من قبل، وتم تدشين مشاريع اقتصادية وتعليمية وإصلاحية ضخمة، ويتبادر إلى الذهن أولاً «المشروع الذهبي»، برنامج الابتعاث إلى جامعات الدول المتقدمة، الذي يدرس ضمنه نحو 150 ألف مبتعث ومبتعثة، سيكون لهم تأثير واضح في مستقبل البلاد، وارتفاع عدد الجامعات إلى 28 جامعة في المناطق والمحافظات السعودية بدلاً من 7 جامعات، وتحسين وتطوير القضاء ودعمه، وإنشاء هيئة لمكافحة الفساد، وهيئة لحقوق الإنسان لضمان العدالة الاجتماعية. كما فتح باب المشاركة للمرأة، بدخولها عضواً في مجلس الشورى، وفتح المجال لها في انتخابات المجالس البلدية، وأصبحت المملكة في عهده ضمن مجموعة دول الـ20 الاقتصادية العالمية.

ولم تتوقف مبادراته عند حدود بلاده، بل أطلق مركزاً لحوار الأديان والحضارات في جنيف، بعد أن دشّن حواراً سعودياً – سعودياً، نتج منه مركز للحوار الوطني، ودعوة بلاده لإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت إشراف الأمم المتحدة.

كما أن الملك عبدالله كان ممن سارع قبل «الربيع العربي» إلى دعوة زعماء العالم العربي خلال قمة الكويت الاقتصادية في 2009 إلى الإعلان عن مصالحة تاريخية بين القادة العرب، وإلى الاهتمام بتحقيق طموحات الشعوب العربية للخروج من حال الوهن والتشرذم. ومما جاء في خطابه آنذاك: «إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعاً عن الوهن والضعف الذي يهدّد تضامننا، أقول هذا ولا أستثني أحداً منّا».

ثم دعوته قادة دول العالم الإسلامي إلى قمة استثنائية في مكة المكرمة للتضامن في رمضان عام 2012، ودعوته قبل عامين خلال قمة خليجية عقدت في الرياض دول مجلس التعاون الخليجي إلى تجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، بهدف تشكيل كيان واحد قوي قادر على مواجهة التحديات والأخطار المحدقة بدول المجلس.

عمل الفقيد عبدالله بن عبدالعزيز على توفير الأمن والاستقرار لبلاده في إقليم مضطرب يموج بالأخطار، وساند ودعم أشقاءه الخليجيين وإخوته العرب وأمته الإسلامية، كما ساند ودعم المجالات الإنسانية في كل مكان.

لم ألتقِ من قبل مواطنين أو زملاء أو أصدقاء لا يشهد أي منهم بأن الملك عبدالله شخصية سعودية عربية إسلامية مؤثرة ومحترمة، وذات رؤية إنسانية فاعلة، يشار لها بالبنان.

الأكيد أن الملك عبدالله كان رجلاً استثنائياً، وملكاً شجاعاً، وقائداً محبوباً، وشخصية محبوبة حظيت بشعبية جارفة تجاوزت حدود بلاده، ما جعل الغالبية يصفونه «بحكيم العرب ورجل العرب».

رحم الله الفقيد الراحل الكبير عبدالله بن عبدالعزيز رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، وأسأل أن يُعين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز على تحمل المسؤولية التاريخية الكبيرة، وأن ينفع بهم البلاد والعباد، وأن يُلهمهم التوفيق والسداد في هذه المرحلة الحرجة والمضطربة من التاريخ العربي.

المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Jameel-Al-Doiabi