هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

ضحايا «كورونا» ضد مجهول!

آراء

في الخمس سنوات الأخيرة، كثفت كثير من الشركات والوزارات والقطاعات جهوداً منقطعة النظير لزرع ثقافة «المواطنة والنزاهة» كأحد أهم مبادئ قيم العمل، فتجد كثيراً من المديرين والرؤساء يكررونها مراراً وتكراراً على الموظفين والعاملين في أغلب القطاعات ويصرون على إقحامها بأي شكل من الأشكال في اجتماعاتهم ونشاطاتهم بمناسبة ودون مناسبة، وبسهولة يمكن أن يلاحظ أي شخص أن «المواطنة والنزاهة» تلك التي يفرضها الرئيس أو صاحب العمل لا يطبقها أغلبهم على نفسه لأنه «أكبر من ذلك» وفي نفس الوقت «ولي النعمة» الذي سيصرف الأجر في نهاية الشهر، فكيف يتجرأ الفرد على مجرد التفكير في أن تلك القيم تنطبق عليه!!

في الوقت الذي تمنح فيه وزارة الصحة الممارسين الصحيين غير السعوديين بدلاً يقدر بـ 60% من راتبهم الأساسي لأنهم يعملون في الطوارئ مثلاً، تمنعه عن آخرين يعملون معهم في نفس القسم فقط لأنهم سعوديون! وفي الوقت الذي يموت ويصاب فيه عدد لا يستهان به من الأطباء والممرضىين والفنيين بعدوى الكورونا تستمر الوزارة في زرع «روح المواطنة» لفئة محدودة جداً حين صرفت لهم بدل العدوى، وحجبتها عن البقية، ربما تكون أرواح تلك الفئة أثمن من غيرها ونحن لا نعلم، ولكن لا أدري كم من روح يجب أن يقدم أبناء هذا المجتمع قبل أن تعترف الوزارة بأن هذا حق للجميع، وكم من الإصابات ينبغي أن تسجل كي يوافق مدير الشؤون الصحية على غلق المستشفى للتعقيم!!!!

في خبر في منتهى التناقض قرر وزير الصحة معاقبة أحد الأطباء العاملين بأحد المستشفيات التابعة للوزارة في منطقة حائل، وتغريمه 5 آلاف ريـال، لمخالفته نظام مزاولة المهن الصحية؛ لأنه قام بالعمل في إحدى الصيدليات الخاصة في الفترة المسائية، بينما لم نسمع عن معاقبة أو تحقيق مع مديري مستشفيات انتشر فيها فيروس كورونا الذي يعد السبب الرئيسي في انتقاله ضعف عملية التعقيم، وضعف جودة الأدوات الوقائية مثل الكمامات وعدم توفرها في مستشفيات أخرى، ولم نسمع بأن الوزير أو الوزارة عاقبت مدير المستشفى الحكومي في الشرقية التي نشرت فيه عمالة سائبة شراشف أسرة المرضى على حبل غسيل لتجف في الفناء الخلفي لخرابة في مبنى متهالك مملوء بالقاذورات في مقطع شهير انتشر على اليوتيوب!

ومن المعروف بأن فيروس كورونا أعراضه مشابهة للإنفلونزا، ومن أبسط حالات الإهمال التي يواجهها كثير من المرضى أثناء مراجعة أقسام الطوارئ عدم الاكتراث بمن لديهم عوارض الرشح والإنفلونزا، وعملية فرز المرضى عادة لا تأخذ تلك الأعراض على محمل الجد، ولا تصنفها كحالة مستعجلة، بل لابد أن يكون المريض ميتاً أو غارقاً في دمائه ليُشخص كحالة طارئة!

استمرار هذا الانحدار المخيف في مستوى الخدمات الصحية، لا يفقد الناس فقط الثقة في إمكانية وجود علاج بل يفقدهم الثقة في أداء وزارة بأكملها، كنا نأمل مع بداية عمل السيد الوزير أن تتم إعادة هيكلة الوزارة وحسابات كثير من الأمور والاستفادة من أخطاء السابقين، واختيار شخصيات قيادية وكوادر مؤهلة تعمل بإخلاص وتوجد على مدار الساعة؛ لتحبط كثيراً من الصفقات والمشاريع والعقود التشغيلية التي تغلغل بها وحش الفساد حين غرس أنيابه في عقود الباطن! تتعامل كثير من المستشفيات مع المريض وكأنه في مطعم وجبات رخيص، لا يعطي المريض حقه، بل تجد أكثر المرافق الطبية تقدم خدماتها على استحياء بسبب نقص في المعدات والأدوية، فمن النادر أن تجد الآن مرفقاً طبياً يتوفر فيه جميع الاحتياجات الطبية، لغياب الرقابة والمتابعة والتفتيش والتدقيق، وربما لأن المسؤول اعتاد ألا يتابع بنفسه، بل يوكل الأمر لشخص آخر، الذي يتركها لآخر ثم لآخر، وهكذا تضيع الأمانة ولا تؤدى، مع أن الوطن مملوء بالمخلصين والأوفياء ومن الذين يضعون خشية الله بين أعينهم، ولكن لا يمنحون تلك المناصب! والحقيقة أثناء كتابة هذا المقال وصلني أن هناك عدداً من الأطباء المصابين في جدة جميعهم في حالة حرجة، أتمنى أن تعلن عنهم الوزارة قبل أن يقوم ذووهم بذلك.

رحم الله أخانا الممرض «بندر» وأسكنه فسيح جناته نسأل الله أن يربط على قلب والديه بالصبر والسلوان.

نؤمن بالقضاء والقدر، ولكن كثيراً من الحوادث التي تقع سببها الاستهتار والإهمال والتقصير التي لا يتجشم فيها كثير من المسؤولين عناء الاعتذار أو الاعتراف بالتقصير بكل شجاعة، ولكن يتم تقاذف المسؤولية بين مجموعة لتظل معلقة فترة طويلة في الهواء إلى أن تتبخر، لتضيع الحقوق والأرواح في عملية تتكرر بعد كل مأساة لتسجل الجريمة ضد مجهول!!

المصدر: الشرق