د. حمزة السالم
د. حمزة السالم
كاتب سعودي

كنز ألستوم خير من كنز النفط

آراء

الفساد الفردي، ولو عظم، ليس بمشكلة، ولا تخلو منه دولة ولا وطن. فليست مصيبة الأوطان في الفساد الفردي أو في تمييز عدد محدود من افراده، بل مصيبته في شبكة الفساد العنكبوتية، فهي مُفقرة الأُمم ، محطمة العروش، هادمة الدول، مشعلة الفتن. فالفساد الإداري والمالي إذا انتشر في أفراد المجتمع، فرخ بعضه بعضا. فاتحد الفساد الإداري بالفساد المالي في كيان واحد، يتزايد ككرة الثلج تزيد ولا تنقص، فتتكون شبكة الفساد العنكبوتية.

فإن كان أثر الإصلاح والإنفاق الإنتاجي أثرا تضاعفيا، فإن أثر الفساد أثر تضاعفي تراكمي بمعدل تكاثر جرثومي. فريال يذهب في غياهب الفساد الشبكي العنكبوتي، ينعكس أثره السلبي على المجتمع كمائة ريال أُنفقت على هدم المجتمع في جميع مجالاته الإنسانية والاقتصادية.

وشبكة الفساد العنكبوتية، مجموعة من رجال الأعمال بالوراثة أو بالفساد، واتباعهم من صنائعهم من المدراء التنفيذيين الجهلة ومن البصمجية أو يحملون مؤهلات رفاق السفر والفرفشة وتوسعة الخاطر. فأعضاء شبكة الفساد يتخللون في اللجان والمناصب العامة والخاصة بطريقة مذهلة، فيسيطرون عليها بمناورات شيطانية، أحيانا. وأحيانا يهيمون عليها بجرأة وببجاحة علنية تُضحك العدو وتبكي الصديق. فأصبحوا يتحكمون في توجيه القرارات، وبالتالي بمليارات مناقصات المشاريع الوطنية. فإما الشرط أربعون يتقاسمها الرفاق، أو بطواعية تبعية البصمجي، أو بكراهية الخائف المذعور أو باستغفال الجاهل والغبي، أو بخديعة الفاهم أو المتحمس. فإن فاتهم أمر لم يأت على هواهم، استدركوه بشباكهم فعطلوه وأفسدوه ثم تُحمل البيروقراطية تأخر المشاريع وضياع الأموال وفساد النتائج.

ومتى تحكمت شبكة الفساد، وأطبقت على المجتمع، يصبح اسم الفساد حينها كاسم الاستخبارات البوليسية العسكرية. فيرهب الناس عن مواجهته ويستسلمون للإذعان له، فقد أصبح الضحية ظالما نباحا، وأمسى المعتدي ذئبا مغوارا.

فطرق شبكة الفساد تُخضع رقاب الناس، فلا يُوظف شاب غالبا إلا عن طريق الشلة العنكبوتية. فهو شريك المستقبل أو هو استثمار في تابع أو بصمجي. وأما من أبى وتمرد عليهم، فنهايته مجرد خيال لمواطن مُدمر العقل والهمة وفاقد الثقة بالوطن. فلا يمر ريال بعد ذلك من الإنفاق الحكومي، الا وقد أكل رفاق الفساد نصفه أو ثلثيه، ثم رموا بهللة للخائف البصمجي وبقرش للتابع الذليل.

فأنى لك بعد ذلك من نفوس أبيات لها هممٌ وأنى لك على الخير من أنصار وأعوان.

وقد عوضنا الله عن نزول أسعار البترول، بما يعود علينا بأضعاف مضاعفة من الدخل الذي يتضاعف مع الأيام ولا ينقص. فقد جاءت وسيلة حل شبكات الفساد العنكبوتية في وقتها المناسب، والناس قد راعها الخوف من انهيار أسعار النفط.

فقضية شركة ألستوم الفاسدة، ليست كغيرها من قضايا فساد الشركات الأجنبية والمحلية. فشركة ألستوم نسيج فريد مطابق تماما لنموذج شبكة الفساد العنكبوتية الخطير. فقَطع شبكتها وشباكها وتأديب خنافسها المحلية، سيكون له أثر واسع في ضرب الفساد، جذوره وثقافته وأدواته وأساطيره الإرهابية. كما سيؤسس بداية الطريق لبناء نظام المحاسبة والمراقبة. وقد جاءت فضيحة ألستوم في وقت، والشارع السعودي، في أشد الحاجة لتجديد الثقة في حكومته، ولإحياء وطنيته وهمته في الاعتماد على تطوير الذات والخبرة الحقيقية، بدلا من صرف الهمم على تلمس الدخول في الشلليات أو الاستسلام السلبي والركون لليأس والقنوط.

وقد تناقلت وسائل الإعلام الغربية لفترة زمنية فضيحة ألستوم في السعودية خاصة وفي غيرها،، ولا هامسا همس بها عندنا. فكم اقترن اسم بلادنا مع الروس وعصابات القذافي واشكالهم. وشركة ألستوم الفاسدة في نفسها والمُفسدة لنا، قد ظهر لي من تتبعها ومن شواهد ودلائل ووقائع مُثبتة أعرفها، أنها ممن بنى شبكة الفساد العنكبوتية فمددتها طولا وعرضا وطورتها على مدى عقود زمنية. فهذا عميل لهم يراسل قيادته فيقول «السعودة هي المطرقة التي استخدمها زبونها لتوظيف السعوديين من الذين هو بقوة يوصي بهم وهم الاصدقاء والعائلة، ولا تتوقع من السعوديين إلا صفرا من الإنتاجية، فضع ذلك في حساباتك في الميزانية» فيأتي الرد سريعا بالقبول والرضا، فهم يستثمرون في تخريب أجيال اليوم ليعينوا حاضر ومستقبلا، بجهلهم في شبكة الفساد فلا عجب إذا أن نتسائل لم لا يفهم السعوديين، ولم تنتشر عصابات الشللية.

وهكذا عاشت ألستوم، تتنقل على شبكات الفساد، تقتات من ذمم أبناء الوطن. فجعلت من الوطن الواحد جسدا يتآكل من داخله وينخره الفساد حتى ظهرت ثقوبه عيانا.

ألستوم، شركة فرنسية فاسدة، قبلت فرنسا ببيعها لشركة جي إي الأمريكية، تخلصا من عارها ومن سمومها الأخلاقية، وإنقاذا لما يمكن إنقاذه مما تبقى منها.

شركة ألستوم عندنا منذ عام 1998م على الأقل، والطيور على أشكالها تقع، فسرعان ما وقعت على الفاسدين. فبدأت بستة محليين (ولا أقول سعوديين، فليس بسعودي هوفهي) تزودهم بملايين الدولارات على أن يسهلوا لها الحصول على المناقصات. وقد أعجبت شركة ألستوم، فوجدت فيهم مستقبلا لها فاحتفظت بهم إلى وقت فضحيتها. وأعتقد أن بعضهم قد أصبحوا شركاء فيما بعد وعمالقة الصناعة والإفساد وخاصة «الصديق القديم».

وقد بدأت حول ألستوم الشكوك والتحقيقات الأمريكية عام 2004. وقد امتنعت ألستوم عن التعاون ابتداء، مما جعل التحقيقات سرية لسنوات فلما وُجهت لها التهم سارعت ألستوم مستسلمة بعقد صفقة سريعة مع وزارة العدل الأمريكية دفعت فيها ما يقارب المليار دولار، مقابل إنهاء الموضوع والتكتم على القضايا كلها والأسماء. والأمور نسبة وتناسب، فالمليار دولار ليس سهلا على ألستوم كسنسوم، فهو على الأقل يوازي متوسط سنتين من أرباحها بينما لا يساوي ربع أرباح سنة واحدة لسنسوم. كما أن سنسوم حوكمت في عشرات القضايا ومن محاكم بلاد وقارات مختلفة، ليست من وزارة العدل الأمريكية فقط. ولهذا فلا أعتقد أن ألستوم كانت ستدفع قريب المليار لقضية واحدة بهذه السهولة، لو لم يكن على حساب عمالقة شبكة الفساد العنكبوتية عندنا. فشبكتهم، وثراوتهم التي تحصلت وستتحصل من فسادهم مع ألستوم ومع غيرها تساوي عشرات المليارات.

ويجب أن نعترف بأن الفساد اليوم قد أصبح ثقافة، يفتخر أهلها بشطارتهم وحذاقتهم بينما يُنظر للصالح بعين الدروشة والإسقاط والغباء. ولهذا فقد يكون من أباطرة الشبكة رجال ذو خلق وخير وذكاء، لمنهم انخدعوا بهذه الثقافة وانجرفوا معها. فالعقوبة المالية التي تعادل المليارات التي انتهبوها من المال العام، مقابل إتفاقية بالكتمان هي في اعتقادي الأنسب اليوم، وغفر الله لهم عن آثار فسادهم الترليونية الكلفة، فالمستقبل السعودي سيكون مشرقا بعد هذا الدرس. وما سيلحقه من أنظمة، وآختفاء لشبح الخوف والإذعان للفساد. وبالتالي يتجرأ عن التبليغ عنه، وتكون مقاومته ثقافة المجتمع.

وهناك أيضا الحق الخاص. فكم من حر سعودي أُهين، بتجرؤ عليه بعرض فساد علني أو سري ومن ثم بالانخراط في الشبكة. فإن تكن نفسه الأبية تأنف الخيانة فاستقذرت الفعل إلا أنه تُرك جريح الكرامة هذا إن لم يمارس عليه الضغوطات والمسرحيات الهزلية من الشبكة واتباعها البصمجية من الجهلة أوالمُتمصلحة الموافقة. والله أعلم كم منهم قد فقد الثقة في وطنه، فعاد بليدا خاملا. فكما أن للوطن حق عام، فهؤلاء لهم حق خاص يجب أن يعوضوا عنه ماديا ومعنوي، ليكتمل الحل والإصلاح ويصدق أحياء روح الثقة في الشارع السعودي، بانتهاء شبكة الفساد.

وختاما، إنه الفساد، لا المشاريع ولا أسعار النفط سبب عجز الميزانية. وهو الفساد، إذا ما قضينا عليه، فلن نحتاج لصرف دولار من الاحتياطيات. وها هي الفرصة المناسبة قد جاءت بالحالة المثالية في الوقت المناسب. وقد توافرت الوقائع والدلائل، كما أن الحكومة السعودية قد ساهمت كثيرا في المعلومات التي ساعدت على طرح ألستوم في شباك وزارة العدل الأمريكية. فوزارة عدلنا أحق بهذه المعلومات وأولى. اللهم فاشهدي يا نزاهة فقد بلغت، ومن يدري فسبحان من يُحيي العظام وهي رميم، فإن لم يشأ سبحانه، فللبيت رب يحميه. وأما الإبل فأنا ربها، ولن أدخر جهدا حتى آتي بها.

المصدر: الجزيرة السعودية
http://www.al-jazirah.com/2015/20150108/lp2.htm