لكل مقام مقال – الحقيقة لم تعد كاملة !

آراء

يقول الكاتب والروائي والمخرج المسرحي الفرنسي ذو الأصول البلجيكية إيريك شميت : ” ماذا لو لم تكن الحياة سوى حلم ؟ وماذا لو لم تكن السحب، ولا العصافير ولا الأرض ولا البشر الآخرون سوى رؤيا يتصورها ذهننا ؟! ” 

هذا السؤال الفلسفي هدفه كيف أصبحنا اليوم نرى الأمور بطريقتنا الخاصة كما نحب لا كما هو الواقع ؟ و كيف أصبح الصراع الخفي بين الموضوعية و الشخصنة ينتهي تدريجياً بتغلب المشهد الشخصي على حساب الموضوعية؟!

والسؤال الأكبر كيف أصبحت الأيديولوجية فكر سرطاني ينتشر بلا حدود وكأنه ورم حميد ، وكيف ساهمت وسائل الاعلام الحديثة في ترسيخها كأمر و فكر طبيعي ، فالأيدلوجية فكر إقصائي يتقيد بها الأشخاص والمفكرون إلى درجة كبيرة، بحيث تؤثر على حديثهم وسلوكهم، وتحدد إطار علاقاتهم بالفئات الاجتماعية المختلفة من خلال إصدار أحكام مطلقة !

مفردات جديدة تهل علينا هنا و هناك وأصبحت جزء من أسلوب حياتنا فقاموس اكسفورد للغة الانجليزية يزيد سنوياً كلمات مستجدة على اللغة تعبر عن واقع ما يحدث في العالم حيث اضيف مصطلح post truth ” أي ما بعد الحقيقة “.. إن هذا المصطلح ومصطلحات أخرى ازدحمت فيها كل الخطابات الاعلامية في العالم مثل fake news ( الأخبار المفبركة ) وalternative facts ( حقائق بديلة ).

بالتالي لم نعد قادرين على استيعاب هذه المصطلحات لكنها أصبحت أموراً جديدة على واقعنا الإعلامي وثابتة في الحوارات الإعلامية وهذا يعني أن الحقيقة لم تعد كاملة absolute value بل أصبحت قيمة نسبية تقاس بنسب مئوية وأصبح تصورنا الشخصي غير الموضوعي للواقع هو الحقيقة!

الآن فقط بدأنا في فهم آلية عمل وسائط التواصل الاجتماعي /فيسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها/ ومدى تأثيرها وذلك من خلال عملية ” الفرز المثلي” أي فرز الناس المتوافقة فكريا في مجموعات وشبكات مشتركة حيث اصبح هناك استبعاد لكل ما لا يتوافق مع ارتياح أفكارنا وهو خطر كبير حيث أننا أصبحنا في عصر تدفق المعلومات بطريقة غير إرادية نقارب ما نحب أن نصدق فقط ومتابعة ما يجري بما يتوافق مع عواطفنا ومحيطنا دون التحقق من صحة ما يأتينا، بل يزيد الأمر حيرة في بيئة نشر المغالطات بزخم لأهداف معينة لتصبح تدريجياً و بسرعة فائقة خبراً وتضطر الجهات المعنية بردة الفعل وهو ما يجعل مشروع الخبر الأصلي المزيف وكأنه حالة عن خبر واقعي وردة الفعل تأكيد، فالإعلام الجديد يستدرجنا لردات الفعل ضمن آلية حسابية ممنهجة ومعقدة لتحقيق أهداف هذه التطبيقات في عمليات التفاعل والتأثير المستمر.

أخيراً وليس آخراً: ليت الأمر ينتهي عند حدود الحقيقة لم تعد كاملة! فالقليل من اللغز مستفزٌّ للذهن، و الكثير منه مرهقٌ !