ريم الكمالي
ريم الكمالي
كاتبة في صحيفة البيان

لوحة قابلة للتأويل المستمر

آراء

في عام 1937م أنجز الفنان الإسباني بابلو بيكاسو لوحة جدارية تُدعى “جيرونيكا”.. رسمها باللون الرمادي المتفاوت بشحوب بين البياض والسواد، وعلى غير عادته في لوحاته الأخرى المفعمة بألوان الحياة.

“جيرونيكا” تعبّر عن الحزن والمأساة التي تنتجها الحروب، وتنعكس على الأفراد المدنيين بلا ذنب.. وفكرة زوال الحياة عن كل كائن لا نرغب فيه فكرياً أو عقائدياً.

لذا، كل المشاعر الإنسانية الهالكة أوجدها بيكاسو في هذه اللوحة، ووضعها بحسه المرهف والعميق والممتلئ بالضجيج كرموز في لوحته؛ من حصان يصرخ وهو رمز الشعب، الثور المقتول الذي يرمز إلى العنف والقتل، بين الأشلاء والأطراف المقطوعة، وأمهات على الأرض يصرخن ويحملن أطفالاً ممزقين، وبعض الوجوه الكاريكاتورية المضحكة والمبكية، والمشاهِدة لهذه الصرخات المفزعة، غير قادرة على اتخاذ قرار..

تبقى المصابيح في أعلى اللوحة من هنا وهناك رمزاً للأمل، رغم أنها أضواء مسلطة على الفراغات في اللوحة، لا على الحدث حيث الجثث المتناثرة.

جيرونيكا القرية الإسبانية الصغيرة الواقعة في الإقليم الإسباني الشمالي وهو إقليم الباسك، والمشتركة في حدودها مع فرنسا.. هناك البيئة ذات الجودة العالية، من حيث الطبيعة والحياة الصحية.. تشابه عشرات القرى السورية الآن، حيث العزلة الموحشة والمنبئة بصوت الرصاص أو الانفجار في كل لحظة بومضات حارقة، لتنوح المياه والسهول وتبكي الأشجار حتى الهلاك.

إقليم رائع الجمال، تعامل الألمان والروس بالتعاون مع الجنرال الإسباني فرانكو آنذاك، في نسفه بإلقاء خمسين طناً من القنابل المحرقة، وطوال يوم كامل من الصباح إلى المساء وبلا وسائل دفاعية، لتخرج القرية المسالمة الساكنة بمجزرة أثارت مشاعر العالم.

الأحداث في لوحة جيرونيكا ما زالت تتكرر في سوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية، والأسلوب الهمجي واللا إنساني في تعبير السلاح كهلوسات مجنونة، يقابلها الفتور العام، وكأن اللوحة تحيا بالقتل من جديد.

مشاهدات القتل في أجوائنا الشرق أوسطية، بين المتنافسين والمتناحرين والمعتقدين بإيمانيات الجهاد والذهاب إلى حور العين.. هذا الكم الهائل من الحزن، متى يكون قابلاً للشفاء؟

بابلو بيكاسو في مدى عمره الطويل، عاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الأهلية الإسبانية، لكنه لم يتنازل عن مبدئه في أن لا يخوض أياً منها، رافضاً الحروب بكل أشكالها، والتي تتخذ الأحزاب رمزاً في بداياتها.. فما قيمة الاتجاه الحزبي أو الشكلي طالما هو ضد الإنسان، ليرفض الدخول أو الانتماء لأي جهة.. وقرر أن يكون إنساناً صرفاً، مدافعاً عن وجود هذا الإنسان في هذه الحياة التي يعرفها، فهو لا يعرف الحيوات الأخرى.. معبراً عن ذلك بسرياليته العميقة في لوحاته الكثيرة.

ولنتساءل معاً؛ لماذا لا يتعلم الإنسان من الأحداث الماضية والمؤلمة للتاريخ؟ هل بسبب الجهل وعدم البحث في الماضي؟ أم بسبب التدوين لأحداثنا التاريخية القديمة على أننا نحن من صنعنا ونحن الأبطال ونحن الأكمل؟ ربما قد خلق ذلك من أبنائنا روحاً خبيثة، ليعتقد كل منهم فوق اعتقاده الكامل بنفسه، أنه الإنسان الحق والكامل، متناسياً إنسانيته، متفاعلاً مع وحدانيته الموهومة.

والآن وبعد أكثر من 75 عاماً من رسم بيكاسو لجيرونيكا، مرت حروب كثيرة على الإنسان، لتخرج اللوحة من جديد، فتصبح قابلة للتأويل، بل تخرج بتفسيرات عديدة في كل مرة..

ورغم أن بيكاسو جسّد هذه اللوحة المؤثرة مشبهاً إياها بإسبانيا، إلا أنها أضحت تعبر عن الواقع والحقيقة.. في جيرونيكا شمولية، وستبقى ملكاً للإنسان وحده أينما كان.

المصدر: البيان