عبدالوهاب بدرخان
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن

مصر وسوريا: الجيش ضمانٌ للدولة أم سببٌ لانهيارها؟

آراء

أقيمت مقارنات كثيرة بين انتخابَين متزامنَين، وشتّان ما بينهما. في مصر هناك تحدّيات لكن هناك الأمل، وفي سوريا هناك سفك دماء لكن هناك وعداً بالمزيد. لم تجد الدول الكبرى، بمعزل عن مآربها غير المعلنة، صعوبةً تُذكر في تجاوز مآخذها على الحكم في مصر أو في اعتزام العمل معه، ولم تجد ما يمنع وصفها الاقتراع في سوريا بـ «المهزلة» أو ما ينقض عدم اعترافها بنتيجته. دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، جدّدت تصميمها القوي على مساعدة مصر ودعمها، ولم ترَ في سوريا أي جديد يُعوَّل عليه. ثمة مخاوف على مصر، بطبيعة الحال، لكن المخاوف أكبر على سوريا بعدما تحوّل نظامها ورقةً يتنازعها حلفاؤه قبل خصومه وأصبح مصيرها رهن التفاوض بين هؤلاء وأولئك وليس بين الحكم والشعب.

قد يقال إنه «الأمر الواقع» في الحالين، لكنه ليس كذلك فحسب، بل يتعلّق الأمر بـ «الشرعية» التي أخضعت التحوّلات العربية مقوّماتها ومحدّداتها للمراجعة، بدءاً من الطرق المتوفّرة للشعب كي يعبّر عن تأييده أو رفضه للحكم، وصولاً الى الورقة التي توضع في صناديق الاقتراع، كذلك بدءاً من الخطاب السياسي وحمولته من القيم والثوابت ومشاريع التغيير والتحديث، وصولاً إلى انكشاف حقيقة النيات خلال التطبيق والممارسة. حتى في الدول المتقدمة والعريقة في الديموقراطية حدثت وتحدث انقسامات حادة حول خيارات مبالغة في يمينيتها (معاداة الشرائح الفقيرة) أو في يساريتها (معاداة الطبقة الغنية)، فالشعوب لا تُساس من أحد النقيضين بل من الوسط، وهي لم تعد تثور لتحقيق غلبة كاملة لأي منهما. وبات مؤكداً أن الشعوب العربية لم تثر لحسم إشكالية دينية، ولم تتطلّع إلى هدم كل ما بُني بل إلى إصلاحه وتصحيح مساراته.

في عام 1990 انهارت الدولة في الصومال، ومضى الحدث من دون أن يستوقف أحداً للنظر في أسبابه (وأهمها انقسام الجيش إلى ميليشيات قبلية متنازعة)، فعامئذ انشغل العرب بحدث أكبر تمثّل بانهيار «النظام العربي الرسمي» كإحدى النتائج المباشرة للغزو العراقي للكويت وتحتّم التدخل الخارجي لتحرير هذه الدولة العربية الصغيرة. ومع انهيار النظام العراقي السابق عام 2003 اختلّت دولته وتضعضع جيشه، وكان في إمكان سلطة الاحتلال الاميركي أن تبقي عليهما تمهيداً وتسهيلاً لإعادة بنائهما، إلا أنها رغبت في عكس ذلك، منسجمة مع رغبة العراقيين أعداء ذلك النظام الذين أرادوا تأسيس الدولة والجيش من الصفر. ومنذ ذلك الوقت أصبحت التجربة العراقية نذيراً مخيفاً، إذ بدا حلّ الدولة والجيش تطبيقاً لأجندة خفية وتخريباً متعمّداً، وما لبث أن تأكد عقب وقوع أحداث/ أخطاء لا تزال متفاعلةً ومتوعّدةً بما هو أسوأ: تفتيت البلد. ويُستدلّ من الوجه الجديد الذي يبديه الحوثيّون في اليمن أن الدولة والجيش مستهدفان، فبعدما شهدت الحرب على تنظيم «القاعدة» في الجنوب اندفاعةً قويةً أخيراً، اندلعت حرب «حوثية» على الجيش في الشمال مع استمرار انفصاليي الجنوب في اعتداءاتهم شبه اليومية على مراكز عسكرية وأمنية، كما لو أن هناك تنسيقاً بين الجهات الثلاث، وصولاً إلى حرف مخرجات الحوار الوطني عن أهدافها بإقامة فيدرالية وفاقية ومنظّمة بين الأقاليم الستة المحدّدة.

في هذا السياق أظهر المجتمع المصري فارقاً كبيراً عندما اعتبر أن الجيش خط أحمر وطني لا يُسمح بتجاوزه مخافة انهيار كامل للدولة، فيما أظهر الخلل الاستراتيجي حاجة عربية قصوى لعودة مصر إلى المعادلة الإقليمية، لذا أصبح استقرار مصر أولويةً عربية. ليس في الأمر تزكيةً لحكم سابق ثار عليه الشعب ولا تفويضاً على بياض لحكم جديد يمكن أن يتعرّض أيضاً لمتاعب داخلية بحتة ولن يكون مفيداً مواجهتها بالشدّة الأمنية فحسب.

في المقابل سُمعتْ أخيراً حججٌ تقول إن ما تتعرّض له سوريا يشبه بالضبط ما حصل في العراق، وما كان مبيّتاً لمصر أو ما هو قيد التنفيذ في اليمن. غير أن الوقائع في سوريا بالغة الوضوح، فالنظام فقد الشرعية عندما بدأ استخدام العنف من دون حساب، والدولة لم تضعف بفعل تدخل خارجي ولا حتى بسبب قوة المعارضة، والجيش راح ينقسم عندما كلّف بقتل المواطنين من دون ضوابط، والمدن والاقتصاد لم يتعرّضا للتدمير من قوة خارجية، بل من ترسانة النظام نفسه. فلو كانت هناك «مؤامرة» مرسومة لما استطاعت تحقيق أهدافها على النحو الذي طبّقه النظام. ورغم كل شيء كان الحفاظ على الدولة والجيش محور الحلول التي درستها الولايات المتحدة وروسيا، شرط قبول النظام التفاوض مع المعارضة على برنامج انتقالي، لكنه رفض هذا الخيار ويستعد الآن لطرح «الحل» الذي يناسبه، ليبقى ويواصل الحكم على طريقته التي أشعلت هذه الأزمة.

المصدر: الاتحاد