ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

نفق مظلم

آراء

الناظر في أحوال الدول العربية هذه الأيام يكاد لا يسمع إلا أصوات التشدد، وأخبار القتل والتكفير وتقسيم الناس بين الجنة والنار. وهذا حال طبيعي لكل أمة ترنو نحو الخروج من أنفاق التعصب الديني والجهل المعرفي. والقارئ للتاريخ لا يستغرب هذه التوترات والقلاقل التي باتت تمس الإنسان البسيط حتى في بيته، ففتاوى رجال الدين وخُطبهم وتصريحاتهم صارت شغلنا الشاغل، وأكرر مثلما ذكرت أكثر من مرة، أن الإسلام ليس فيه رجال دين، ولكن جُلّ من يمثلونه اليوم صنعوا من أنفسهم كذلك؛ وأصبحوا يخوضون في كل شيء باسم الدين، حتى حرّموا مطالبة الناس بحقوقهم المدنية والاجتماعية ووصفوا من يفعل ذلك بالكافر.

ومع بروز حركات الإسلام السياسي في الدول العربية التي تشهد أحداثاً غير مستقرة، بدأ الصراع بين أصحاب المرجعية الدينية الأكثر عمقاً وقِدَماً (السلفيون) وبين خصومهم التاريخيين والجدد (الإخوان المسلمون) الأكثر براجماتية وطموحاً على المستوى السياسي. ويتجلى هذا الصراع اليوم في سعي الطرفين لإثبات مصداقية سياسية وليست دينية فقط؛ فكلٌّ يفترض أنه الأصوب فكرياً ويحاول تسويق وفرض رؤيته على المجتمع. وكُلٌّ يدّعي أن الإسلام، أي نموذجه هو، هو الحَلّ، مستخدمين الإعلام والسُّلطات التي تمكنوا من السيطرة عليها أو الجهات التي تصلها أموالهم.

إن من حق «الإسلاميين» أن يخوضوا هذه التجارب السلطوية، فالناس لم تُجرّبهم على هذا المستوى من قبل، ومن يتعاطف معهم يقول بأنهم لم تُتَح لهم الفرصة لإثبات قدراتهم، وعلى الرغم من أن تجربتهم لا تزال فتية إلا أنها تنحى كل يوم منحى أكثر تأزماً.

ما يهمنا في كل ذلك هو عدة أشياء؛ أولاً أن المرحلة القادمة ستشهد صراعات دموية بين رموز التيارات الإسلامية في محاولة للسيطرة على أكبر نسبة من الرأي العام وكسب تعاطف البسطاء؛ وبالتالي سينزوي صوت العقل وستُغيّب الحكمة لمدة من الزمن حتى يُكفّر هؤلاء بعضهم بعضاً في إبادة أيديولوجية جماعية، لأن كثيراً منهم لا يعملون من أجل الإنسان، بل من أجل فرض رؤيتهم لإدارة شؤون حياته. ثانياً: سينتشر الإلحاد كالنار في الهشيم؛ لأن الجيل الصاعد بدأ يفقد الثقة في كثير من رجال الدين الذين لم يستطيعوا أن يجددوا فكرهم وفقههم وما زالوا يعيشون زمن التابعين، ورغم نقائه إلا أنه لا يتناسب مع زماننا، ولو خرج أحد التابعين، رضوان الله عليهم، اليوم لما أخذ بكثير من آرائه في زمانه. وسيفقد الناس ثقتهم بالدين لأن كثيراً من رجاله صاروا رجال سياسة مدَّعين أنهم بذلك يطبقون شرع الله للوصول إلى الدولة الإسلامية. ولا أدري ماذا يقصدون بمصطلح الدولة الإسلامية؟ فعندما برزت الحضارة الإسلامية (العباسية بعد الرشيد والأموية في الأندلس) فإن الدولة كانت مدنية، ولا أعني بمدنية أي علمانية، ولكنها لم تستغل الدين لفرض سيطرتها على المجتمعات، بل وظفت قدراتها المعرفية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لكسب ولاء الناس. أما فكرة الدولة الإسلامية فإنها فكرة إنسانية بحتة، وليست تشريعاً نزل من السماء.

ثم إن الدول الناجحة لا يحكمها الوعاظ ورجال الدين، بل التكنوقراط من رجال الاقتصاد والسياسة، فكثير من رجال الدين لا يُفرقون بين منابر الجُمَع ومنابر السياسة.

ومن ناحية أخرى، سنشهد صراعاً على المرجعية الأيديولوجية للتيار السلفي في المنطقة العربية بشكل عام، ليبرز السؤال: هل ستبقى مرجعية السلفية هي السعودية، أم سيتجاذب المصريون وفي المستقبل السوريون أحقيتهم في هذه المرجعية؟ ما لا شك فيه أن هذا الصراع سيكون حتمياً بعد تطهير سوريا من نظام الأسد، وعندما تبدأ التيارات الإسلامية في الصعود فيها، كما حصل في مصر وليبيا وتونس، فستكون الجبهة السلفية (أيديولوجياً وليس حركياً) ثالث الجبهات السلفية في المنطقة بعد السعودية ومصر، التي لن تقبل أن تكون تابعة لدولة أو لجبهة أخرى.

ولكن يبقى للعلماء والفقهاء المجددين دور أخير لمساعدة الأمة على الخروج من نفقها المظلم هذا بسرعة ويُسر، إذا ما عملوا بجد وإخلاص على تجديد الفقه، ليكون فقه واقع يناسب عصره. وسنخرج من هذا النفق إذا توقفنا عن الاصطدام بكل شيء ليس «إسلامياً»، فالمعرفة إنسانية وليست مرتبطة بدين؛ لنُعيد قيمة العقل والبحث المعرفي. وعندما نتوقف عن تقديس رجال الدين، وعن اجترار الماضي وصراعاته العرقية والطائفية. وعندما نقلل من استخدام العاطفة وننفتح على الأفكار الإنسانية بخيرها وشرها، ثم نُمعن العقل الذي غذيناه بالعلم والمعرفة قبل ذلك، فنقبل ما يُناسب ظروفنا ونترك الآخر. نحتاج أن نثق بأنفسنا أكثر، فليس كل من انتقد شيئاً يراه خطأ هجمنا عليه وكأن الدين مَنزل من قش سيسقط عند أول نفخة، فالواثق بعقله وبدينه لا يلجأ للغضب وللشتم وللغضب وللقتل، وإن كان هناك من ثمن علينا أن ندفعه للخروج من هذا النفق فأتمنى ألا يكون ذلك الثمن هو الدين والعقل والتسامح، فإذا خسرنا هذه المعاني الوجودية العظيمة فإننا لن نستطيع استرجاعها مرة أخرى، وسنبقى نراوح في نفس النفق.

المصدر: صحيفة الشرق