جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

وجدة في فيينا

آراء

كان طقس لندن في تلك الليلة محتَملاً، يميل للبرودة، ولكنه معتدلٌ بشكل كافٍ، فاخترت وأصدقاء مقهى في الهواء الطلق، توقف أحد المارة وخاطبنا بكل أدب: «أيها السادة، إنني رجل معدَم، أعيش في الشارع، لا بيت عندي ولا أسرة، بل ليس عندي حياة أعيشها، أرجوكم ساعدوني بقليل من المال كي آكل هذه الليلة» تجاهلناه، فمثله كثيرٌ في لندن، بل في كل مدن العالم، استمر في الحديث والاستجداء، توقفنا عن الحديث منتظرين أن يمضي، جاء النادل وصرفه، ولكنه عاد واستمر في عرض قضيته، في النهاية قال: «لا أريد أن أثقل عليكم، يكفي أن يقول أحدكم لا وسوف أمضي»، قلت له: «لا» فمضى.

أخيراً شاهدت فيلم «وجدة» وأين؟ بعيداً في العاصمة الأوروبية فيينا! هذا الفيلم الذي صور في عليشة الرياض، نحتاج أن نمضي بعيداً إلى فيينا ولندن ونيويورك كي نشاهده، إنه يستحق ذلك، بل إن النقاد هناك أثنوا عليه، وأخذ يشق طريقه بقوة مرشحاً للأوسكار كأفضل عمل أجنبي.

قاعة السينما كانت ممتلئة بالمشاهدين الذين تفاعلوا مع الفيلم، فأسمع ضحكاتهم على «لسعات» الطفلة «وجدة» الذكية التي لا تريد أن تتحدى مجتمعها، وإنما تتصرف على أساس أن ما تطلبه هو حق لها، فكل ما تريده أمور عادية تتمتع بها أي بنت في سنها، إنها تريد أن تشتري دراجة وتقودها بحرية، لا أكثر، هذا الطلب البسيط الذي بدا صادماً لمجتمعها المحافظ هو الذي أبدعته المخرجة السعودية «هيفاء المنصور» التي لم تقدم بطلة فيلمها ثائرة غاضبة تريد أن تغير العالم من حولها، وإنما طفلة بريئة ترى حريتها في أن تقود دراجة، و«تختار» حذاءها القماشي الذي يريحها وليس الحذاء الجلدي الأسود الغليظ الذي «اختارته» لها ولكل زميلاتها مديرة المدرسة.

المديرة تريد من الطالبات أن يعشن في «قالب» ليس بالضرورة أنها مقتنعة به، وإنما تعتقد إن واجبها أن تضخهم في هذا القالب، وهو ما رفضته «وجدة» ببراءة، بدون غضب. لا توجد دراما حادة في الفيلم، وإنما عرض لحياة طبيعية حقيقية، لا عراك، ولا بكاء وخبط أبواب، لم تُسَل نقطة دم واحدة، باستثناء جرح أصاب «وجدة» في ساقها بعدما سقطت من على الدراجة التي تقودها على سطح المنزل، فصرخت الأم «وين الدم»؟ رمزية واضحة لما تعانيه المرأة في مجتمع ذكوري محافظ، وما يجب أن تحافظ عليه، لا مجال هنا لأي شك، فالمجتمع لا يرحم.

اختلفت مع صديق «كيف سيقدم الفيلم المجتمع السعودي للعالم»؟ صديقي يعتقد أنه سيقدمنا بصورة سلبية «فليس كلنا نعيش هكذا»؟ هنا المشكلة، الفيلم الناجح هو الذي يقدم بصدق ما لا نعيشه، ولكن الذي يعيشه بعضنا، وبعضنا هنا كثير، فليس كل السعوديين أغنياء تقود بناتهم الدراجات في حديقة الفيلا الواسعة أو الشاليه، بيننا فقراء ومحدودو دخل يشكلون أكثر من ربع المجتمع، والسعادة من حق الجميع ويجب أن نراهم ونسمع صوتهم.

أعرف الزميلة «هيفاء المنصور» جيداً منذ أن صورت مناسبة للسفارة السعودية في بريطانيا قبل سنوات، وقد رافقتها ابنتي الكبرى «نهى» حينها، وكانت في الخامسة عشرة، أكبر من «وجدة» بقليل، طيلة اليومين اللذين قضتهما تصور المناسبة، ويبدو أنها أثرت فيها، فنهى بدأت قبل أسابيع دراسة الماجستير بكاليفورنيا في التصوير والسينما والجرافيك.

سألت «هيفاء»: من كان الجمهور الذي تفكر فيه وهي تصور فيلمها في الرياض؟ فأجابت: «الجمهور السعودي بلا شك، هم الأصل والأهم والأحب إلى قلبي»، إنها تريد أن تطرح علينا أسئلة المرأة السعودية وحقها في السعادة، ولكن حيث إنه يفترض ألا نحضر الأفلام في صالات السينما، ذهبت إلينا في فيينا ولندن ونيويورك، شاهدوا الفيلم ثم أجيبوا عن أسئلة «وجدة» ووالدتها و«هيفاء المنصور».

المصدر: مجلة روتانا