د. واسيني الأعرج
د. واسيني الأعرج
أكاديمي وروائي مقيم بفرنسا

المَظْلمَة الأدَبيَّة

الثلاثاء ٢٩ يونيو ٢٠٢١

بعض الجمل تستمر في التاريخ كما لو أنها وُلدت منحوتة من جسد الأبديّة، فتتحدى الزمن والموت، بل كثيراً ما تتحول بقوة صدقها إلى شيء يشبه الحكمة. ذكر أبو هلال العسكري (308 – 395هـ) في كتابه «الأوائل» أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، قال الناس: «لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حرفة الأدب»، وكانوا يعنون بذلك عالم العزلة، الفقر وقلة الحظ. جميل أن يكلل جهد الكاتب باعتراف ما، في حياته أولاً، لأن المُكرّم بعد موته لا يحتاج كثيراً إلى مواكب الأعراس الفارغة. الكاتب الإنجليزي وليم ميكبيس ثاكري، لم توصله أعماله الأدبية إلى الثروة، فهجرها للصحافة، وقال كلمته المشهورة «الأدب ليس تجارة ولا مهنة ولكنه الحظ الأنكد». معاناة الكاتب والفنان أكبر من أية لفتة على الرغم مما لهذه اللفتة من قيمة.. لا شيء يعيد له الساعات التي قضّاها منكفئاً على فمه، على الرغم من مرضه وتعبه، ينسج نصاً قد يعجب القراء، وقد لا يعجبهم طبعاً.. الكتابة هي العالم الوحيد الذي لا ضمانة مسبقة فيه، لا نعرف مردوده أبداً، حتى عندما نكون معروفين ولنا اسم كبير في الوسط الثقافي، قد يأتي نحونا من لا نتوقعهم، وقد نظن أننا كتبنا نص العمر، فنفاجأ بالعكس تماماً. لا شيء يُرجع له الانهيارات النفسية الداخلية…

ورّاق الخسارات الكبرى

الثلاثاء ١١ مايو ٢٠٢١

عندما انتهيت من قراءة «دفاتر الورّاق» للروائي المميز جلال برجس، وقفت حائراً طويلاً أتأمل التاريخ العربي وأتساءل عن سر هزيمة ثلاثة أجيال متعاقبة، الجد محمود الشموسي، الابن جادالله، والحفيد إبراهيم، هل قدرها أن تورث الهزيمة تلو الهزيمة؟ وهل سبب انهياراتها الآخر أم من بنيتها التي فرضتها الظروف وقسوة الحياة والأنظمة البليدة؟ من الإقطاع وتدميره للروح، إلى جيل الخيبات والهزائم والعزلة، إلى جيل الجنون، الذي انغلقت أمامه كل سبل الحياة فعاش داخل عالم افتراضي، أو هرب نحو غرب بحثاً عن حياة ممكنة لم تكن موجودة إلا في أذهان من اختار ذلك المسلك، وهو ما يجعل هذه الرواية، نصاً سياسياً بامتياز. عاش محمود الشموسي فقراً قاسياً بعد أن أفرغه الإقطاع من الداخل، وحوله إلى كائن مهزوم، ولم تكن سنتا 1948 و1967 إلا علامتين للخوف والهزيمة وانهيار أنظمة كارتونية كاذبة: خسران فلسطين، والهزيمة العربية. وعلى الرغم من ذلك، فهو يرى في ابنه جادالله حلماً لا يموت، فيرفض أن يسرق هذا الحلم، ولا يتردد في أن يطلق النار على ابنه عندما يعود من موسكو لأنه اختار الفلسفة والشيوعية، بينما كان يريده طبيباً. لكن جادالله لا يخرج عن الهزيمة الشمولية في سجنه الثاني، لا يخرج جادالله إلا بعد أن اشتريت منه حريته، معيداً بذلك إنتاج صمت والده محمود الشموسي. إبراهيم الذي بُنيتْ الرواية عليه، اختلف…

حرية التخييل والإبداع

الثلاثاء ١٣ أكتوبر ٢٠٢٠

يشكل عنصر الحرية في التمثّلات الإبداعية، الحجر الأساس في فعل التخييل، إذ بدون حرية يظل المنتَج الإبداعي محصوراً في دائرة الواقع الموضوعي، كما تريده مختلف السلط المتعالية كالسياسة والمجتمع والدين.. وربما كان فعل الحرية وراء المعضلات الكبرى المرتبطة بالمصادرات، والقمع الفني الذي يصل أحياناً حد السجن أو الاغتيال. للأسف معظم الدراسات بما فيها الأجنبية لم تنبه إلى الرابط الوشيج، الذي يجمع بين القدرة على التخييل والإبداع وعنصر الحرية، فمجتمع مقيد يكون تخييله المعلن على الأقل، وليس الباطني، مقيداً أيضاً، السياقات التربوية في الأسرة والمجتمع، والثقافة الجمعية المهيمنة، تحد كلها من هذه الحرية وتهيكلها بحيث تستجيب للمعطى الاجتماعي، والديكتاتوريات العالمية لا تفعل في النهاية أكثر من هذا: مصادرة التخييل، طبعاً، يستطيع فنان كبير وذكي، أن يجد التمثُّلات المختلفة والمعبرة عن شرطيته المقهورة باختراق المنع بالتخييل، الذي يغرق الحقيقة في سلسلة من الاجتهادات الفنية لا يفهمها إلا من يشعر بعمقها، ويقدم بذلك نماذج تخييلية متعالية على المجتمع بكل ضغوطاته، وذلك يحتاج إلى موهبة خارقة تستطيع أن تجعل من التخييل وسيلتها للتمويه والنقد، تجمع كل الشظايا المجتمعية وإعادة تركيبها من أجل منتج ثقافي مميز، لنا في «ألف ليلة وليلة» تعبير حقيقي عن هذا التخييل المتسع والكبير الذي لولاه لما أصبح النص خالداً. الذي تخيل وأبدع نص ألف ليلة وليلة لم يكن مجرداً من…

النكبة العربية الكبرى

الأربعاء ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٠

حالة مستعصية على الفهم: رفض الحكام العرب رؤية ما يعيشونه اليوم أنه نكبة حقيقية بكل المواصفات، يتم فيها نهبنا وإخراجنا من التاريخ، وتحويلنا إلى كيانات مشردة، ضائعة أو تابعة. أكبر ما حلّ اليوم بالعرب هو تجريدهم من أيّ مبادرة، ومن أي وجود موحّد، كلّ يغني بليلاه، ليسهل الانقضاض عليهم واحداً واحداً كما في ملوك الطوائف لا يختلف العدو في الجوهر، بين ملوك كاثوليك يحملون في أعماقهم حقد ثمانية قرون، وربما أكثر، وكيان صهيوني يحمّل العرب معضلات التاريخ والحاضر. نكبتان تُجسِّدان هذه الحالة: الأولى سقوط الأندلس، وإنشاء محاكم التفتيش المقدس في فترة الطرد والاسترجاع، فكانت الفجيعة الأولى، طرد ثلاثة ملايين من الموريسكيين والمارانيين (المسلمون واليهود)، وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة في عراء السواحل، فكان أكبر هولوكوست في التاريخ، دفع إسبانيا الحالية إلى الاعتذار لليهود ومنحهم استرجاع هوية أجدادهم، وهو أمر حضاري طبيعي، لكنهم لم يعتذروا للمهجرين من المسلمين، الموريسكيين، الذين كان أغلبهم قد أصبح مسيحيّاً منذ قانون الملكة إيزابيلا وفرديناند. لنتخيّل قليلاً تلك الحشود واقفة على حواف الموانئ الإسبانية تنتظر السفن الإيطالية التي تنقلهم نحو الضفة الأخرى، كثير من هذه السفن كانت ملكاً لقراصنة بحار، ترمي أغلب المهجرين في عرض البحار بعد تجريدهم من أموالهم. الهولوكست العربي الثاني: اتفاقية سايكس بيكو، التي استباحت الأرض العربية، ومزَّقتْها فرنسا وبريطانيا، وخلقت عليها دويلات…

شرق منكسر.. وغرب مزهو

الثلاثاء ٢٥ أغسطس ٢٠٢٠

الحضارات مثل الموجات التي تكبر في رحلتها وتعلو باستمرار، وعندما تصبح مثل الجبل ويصعب احتضانها، تتمزق على صخور الشط، وتتحول إلى زبد وذرات صغيرة متطايرة من الماء لا ناظم لها يعيدها من جديد إلى ما كانت عليه. كلما ذُكِر اسم عربي منح الإنسانية جهده، أدركت كم أن العبقرية العربية كانت بعيدة النظر، لكن الظلم القاسي هو أن جهدها الإنساني بعد انكسارها، ظل بلا صوت، لم يصل إلى الأعماق ليتحول إلى فاعلية إنسانية، كما كان تاريخياً. لا يسمع لنا اليوم لأننا مكسورون وضعاف الحال، ولا نملك ما نقدمه للبشرية إلا ما جادت به الطبيعة علينا، لكن أيضاً، لا يُسمع لنا لأننا لا نملك الأدوات الحية التي توصلنا إلى عقل الآخر وكسر تحجره وأنانيته، وإذا أفلحنا في الوصول نصل مبتورين. لغتنا تحتضر بسبب الإهمال العلمي والمعرفي، ولا نعرف كيف نجعل منها أداة الحياة والنور والسلام، لا يمكن أن ننفي اليوم، أن الناظم للعلاقات الإنسانية ليس القيمة ولا الإبداع الخلاق أبداً، لأن الإبداعية العربية على الصعيد الفردي، ليس لها ما تخجل منه، فقد أنتجت ما أبهر العالم، المشكل الوحيد هو أن الناظم المسيطر على المستوى الإنساني، لا يزال عقل الحروب الدينية القديمة، مبطناً في الكثير من التصرفات البشرية التي لم تتخلص منه، بل يعود اليوم هذا العقل بكثافة في ظل الصور النمطية المهيمنة.…