شرق منكسر.. وغرب مزهو

آراء

الحضارات مثل الموجات التي تكبر في رحلتها وتعلو باستمرار، وعندما تصبح مثل الجبل ويصعب احتضانها، تتمزق على صخور الشط، وتتحول إلى زبد وذرات صغيرة متطايرة من الماء لا ناظم لها يعيدها من جديد إلى ما كانت عليه.

كلما ذُكِر اسم عربي منح الإنسانية جهده، أدركت كم أن العبقرية العربية كانت بعيدة النظر، لكن الظلم القاسي هو أن جهدها الإنساني بعد انكسارها، ظل بلا صوت، لم يصل إلى الأعماق ليتحول إلى فاعلية إنسانية، كما كان تاريخياً.

لا يسمع لنا اليوم لأننا مكسورون وضعاف الحال، ولا نملك ما نقدمه للبشرية إلا ما جادت به الطبيعة علينا، لكن أيضاً، لا يُسمع لنا لأننا لا نملك الأدوات الحية التي توصلنا إلى عقل الآخر وكسر تحجره وأنانيته، وإذا أفلحنا في الوصول نصل مبتورين.

لغتنا تحتضر بسبب الإهمال العلمي والمعرفي، ولا نعرف كيف نجعل منها أداة الحياة والنور والسلام، لا يمكن أن ننفي اليوم، أن الناظم للعلاقات الإنسانية ليس القيمة ولا الإبداع الخلاق أبداً، لأن الإبداعية العربية على الصعيد الفردي، ليس لها ما تخجل منه، فقد أنتجت ما أبهر العالم، المشكل الوحيد هو أن الناظم المسيطر على المستوى الإنساني، لا يزال عقل الحروب الدينية القديمة، مبطناً في الكثير من التصرفات البشرية التي لم تتخلص منه، بل يعود اليوم هذا العقل بكثافة في ظل الصور النمطية المهيمنة.

من الصعب إخراج أطروحات سامويل هنتغتون العنصرية مثلاً من الناحية الفكرية، أو برنار هنري ليفي، من عقلية الحروب الصليبية المترسبة في الأعماق.

ومن الصعب أيضاً إخراج الكثير من ردود الأفعال العربية على الصعيد الشعبي والثقافي من الآخر الذي فينا، من العقلية ذاتها التي كثيراً ما تظهر بقوة، عندما تتنامى الأزمات وتكثر الهزائم، ويصبح تخطيها صعباً، بل أمراً مستحيلاً في ظل الثقافات المتحكمة في العصر.

ومع أنه إلى وقت قريب إذا أردنا اختزال الزمن البشري، لأنه في النهاية لا يساوي الكثير أمام الزمن الكلي، كان المشهد مختلفاً، وكانت الإنسانية العربية ظلاً يعبر كل الثقافات والممارسات العالمية.

كان الصوت العربي مسموعاً في كل الدنيا التي كانت تحيا مع العرب تحت سماء واحدة، وتتنفس الهواء نفسه، وتنتج برفقته القيم الثقافية والحضارية التي كانت تجد مكانها وتسهم في سعادة الإنسانية، الثقافات تتقاطع بلا حرج ولا خوف.

لقد أسهم ابن رشد في بناء العقل الغربي، وقدم له قيمه ومعارفه التي سبق أن نفر منها: أرسطو، في حلة جديدة ومشروحة.

أبوالعلاء المعري كان سيد العقل ولامس ليس فقط العقل العربي المرتبك في أسئلته الوجودية، ولكنه مس أيضاً العقل الجمعي أي الإنساني، من الصعب إغفال أن الكوميديا الإلهية خرجت من رحمه، حتى لو كان من الصعب على غرب رسمي، مزهو بانتصاراته، الاعتراف بذلك، فلا قوة تُغير حقيقة التاريخ، مهما كانت قسوة الحضارات المنهارة.

المصدر: الرؤية