كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
لم تكن “أرامكو” في حياة وطنها ومواطنيه مجرد عملاق نفط هائل أو نهر أبيض في تاريخ هذه الصحراء. كانت وما زالت (غرفة) انطلقت من حقولها ومبانيها آمال وأحلام الآلاف الذين، وبفضلها، اجتمعوا على (قلب) وطن واحد متحد سيحلو صباح (الخميس) لاستعادة واستعارة مخزون الذكريات.
بعد هذه العقود من الزمن، وبعد سنيّها الطويلة، قابلت زميل الدراسة، أخي ناصر الخشيم، وهو الذي درس معي في (فصل المشاغبين) في المدرسة المتوسطة الوحيدة يوم كنا أطفالا في سراة عبيدة. لكن (أبو عبدالرحمن) تركنا العام التالي مثل آلاف المهاجرين إلى الشمال.. طفلا مراهقا يلتحق بالشركة الأم ويقضي عامه الأول فيها.. يسحب الرمال من الطرقات الذاهبة إلى آبار النفط. بعدها عمل أربع سنوات أخرى على جهاز التحويل والتشغيل في (شدقم)، وما أدراك ما (شدقم) حين تربطها في خيط مع شيء من (جهنم) يوليو أو أغسطس. لم تكن (شدقم) وأخواتها مجرد مصانع للنفط، بل مصانع لآلاف الرجال الذين خرجوا من رحم هذه (الأم) في ولادة جديدة. وبعد لهيب هذه الصحراء يذكر لي (أبو عبدالرحمن) كيف دخل عالم المال والأعمال، وكيف تحول ـ بفضل (أرامكو) ـ هذا الطفل من (فصل د) المشاغب بسراة عبيدة إلى رجل أعمال في الطرف الجنوبي من هذا الوطن. حبست دموعي وهو يروي في سرد أخاذ كيف عاد قبل عامين إلى (أرامكو) ليسأل عن زميل الغرفة الأولى في (شدقم).. علي بن هتيلة اليامي، وكيف تعانقا واقفين، وكيف بللا ثياب بعضهما البعض بالدموع في اللقاء الأول قبل ثلاثين عاما من الفراق. كيف صنعت (أرامكو) من ناصر الخشيم، عصاميا إلى عالم الأعمال، وكيف تمسكت بصديقه اليامي من بعده (ماكينة إنتاج) ما زال حتى اليوم قياديا داخل شبك هذه الأم.
كيف توحد وطن بأكمله في رحم هذه الأم؟ وكيف خلقت (أرامكو) لكل القادمين بعد نجاح هذا الوطن عائلة صغيرة، وكلهم يشتركون في اللقاء أو الوداع في قصة واحدة مستنسخة؟ كيف استطاعت (أرامكو)، ومن معارفي فقط وأهل مساقط رأسي؛ أن تأخذ ابن (اللحام) إلى منصب النائب الأول في رئاسة الشركة، وأن تصنع من ابن (بوابها) الكهل القديم آخر نائب في قائمة قصص النجاح المتتالية؟ كيف استطاعت (أرامكو) أن تعطي شقيقي ذات الفرصة كي يثأر رفضها لأبينا عاملا على البوابة، ثم يتحول (الابن) إلى طبيب استشاري لامع في قلب هذه الشركة؟
المصدر: الوطن أون لاين