كاتب سعودي
لا يمكن أن يوصف التقرير سيئ السمعة والمسيس الذي نشرته الإدارة الأمريكية الجديدة حول حادثة القنصلية السعودية في إسطنبول إلا بأنه أسوأ رشوة سياسية في التاريخ السياسي المعاصر، قدمتها أمريكا الدولة العظمى لدولة مارقة هي إيران، وأقل ما يقال عنها إنها رشوة مكلفة جداً وبلا مبرر ولا سند قانونياً لها، ممن لا يفهم السياسة في الشرق الأوسط وتداخلاتها لمن لا يستحق.
هل يعقل أن دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية بكل مراكز القرار وخبراتها السياسية المختلفة ومجلسي الشيوخ والكونغرس ومراكز الأبحاث ووزارة الخارجية والبنتاغون والأمن القومي، تسمح بتقديم مجموعة من الهدايا السياسية الثمينة لطهران خلال أقل من شهر واحد هو عمر هذه الإدارة دون أن تأخذ منها موقفاً سياسياً واحداً، إذن ماذا ستقدم واشنطن لطهران في نهاية ولايتها التي ستنتهي بعد أربع سنوات، هل ستقدم سلاحاً نووياً أمريكياً مغلفاً بورق سلفان صمم في نيويورك، أم سترسل تمثال الحرية لينصب في وسط طهران عرفاناً بمسؤولية ملالي إيران وأياديهم الملطخة بالدماء عن ملايين القتلى في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفغانستان.
بالطبع نؤكد أن السعودية لم ولن تسمح بأن تكون خياراً تفاوضياً لأي أحد، وهو خط أحمر لا يمكن تجاوزه، ولهذا كان الموقف السعودي الرسمي والشعبي حازماً في هذا الموضوع، كما سبقته مواقف الرياض مع واشنطن نفسها وكندا وألمانيا وغيرها.
ومع ذلك، فإن ما حصل لا يعدو كونه سياسة مندفعة بلا «حكماء» يضبطون إيقاعها، يطربها تصفيق اليساريين في صحف ومنصات الإعلام الغربية أو في علب الشواذ في لوس أنجلوس وبرلين.. إلخ، دون أن يكون المقابل في الشرق الأوسط مزيداً من السلام والاستقرار.
ما فعله بايدن وفريقه اليساري المتطرف أسوأ مما فعله تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عندما تردد ومعه الأمة الإنجليزية في مواجهة ألمانيا النازية التي بدأت ملامح تغولها في القارة الأوروبية منذ تولي هتلر مقاليد الحكم، وكان الرأي السياسي السائد وقتها أن بريطانيا جزيرة معزولة بعيدة عن الخطر الألماني، حتى فاجأهم «الرايخ» باحتلال بولندا واقترابه من الشواطئ البريطانية، وأخيراً مواجهة القصف العنيف للعاصمة لندن لتصبح الحرائق في أصابعهم، فهل ينتظر ساسة واشنطن حرباً لا تبقي ولا تذر، أم يعتقدون أنهم سيكونون بمعزل.
لقد وصِف تردد «تشرشل» بأنه أسوأ رشوة في تاريخ السياسة الدولية في ذلك الوقت، أدت إلى حرب عالمية ثانية وحولت هتلر إلى ديكتاتور، نتج عنها ستون مليون قتيل واحتلال كل أوروبا تقريباً، إلا أن ما فعله بايدن يفوق البريطانيين بمراحل.
سياسات وتصرفات الإدارة الأمريكية (الجديدة) في شهرها الأول أخذت مسارين شديدي الخطورة في الشرق الأوسط؛ الأول يتجه نحو إعادة تعويم «طهران» عاصمة الإرهاب في العالم ومكافأتها نووياً، والآخر معاقبة السعودية وشيطنتها استرضاء للإيرانيين واليسار المتطرف.
لا يمكن قراءة التقرير المسيس في قضية القنصلية في إسطنبول، إلا بأنه «دية» لدم قاسم سليماني؛ «سليماني» رأس الإرهاب والمسؤول عن قتل آلاف الجنود الأمريكان في العراق وأفغانستان، فضلاً عن مئات الآلاف من سكان الشرق الأوسط، هكذا تريد أن تدفع إدارة بايدن ثمن دماء سليماني من دماء «السعوديين»، بينما القاتل والمقتول أمريكي وإيراني.
ربما لا يعرف بايدن وطاقم إدارته أنهم بذلك التقرير«غير المهني»، والاندفاع غير المبرر نحو علاقة «غرام سياسية» مع طهران، قد يشعلون فتيل نار هائلة ستلتهم الشرق الأوسط كله، ما يعني بالضرورة إخفاق دوله المنتجة للطاقة عن الإنتاج والتصدير، وهو ما سيحقق كارثة اقتصادية عالمية ستجعله يرى من شرفة البيت الأبيض ملايين الأمريكان عاطلين في الطرقات، وشللاً في الاقتصاد الأمريكي الذي سيتحطم لا محالة على عتبات الشرق الأوسط، كما رأى تشرشل من شرفة 10 داوننيج استريت لندن وهي تحترق تحت القصف الألماني.
المصدر: عكاظ