السنة الهجرية… تأملات في الهجرة إلى الذات

آراء

خاص لـ هات بوست:

لم تكن الهجرة لحظة انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت انقلابًا في بنية الزمن. فلم يعد يُقاس بالدقائق، بل بالمعنى. ولم تعد الشهور تُحتسب بترتيبها، بل بما تُحدثه فينا من تحوّل.

حين بدأت دولة الإسلام تتّسع، برزت الحاجة إلى تقويمٍ يُضبط به الزمن، فجمع عمر بن الخطاب كبار الصحابة، وسألهم: من أين نبدأ تاريخ أمتنا؟

تعدّدت الاقتراحات: من المولد؟ من البعثة؟ من الوفاة؟ لكنّ الآراء اجتمعت على الهجرة. تلك اللحظة التي اختار فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ من جديد، أن يترك خلفه أرضًا أحبّها… ليصون ما هو أسمى.

لم يختر عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم لحظة مجد، بل لحظة تحوّل، لأن الأمة التي تُؤرّخ بالمعاني لا بالأحداث، هي أمة لا تخشى أن تعيد خلق نفسها كلما ضاق بها الزمن.

ومن هنا، بدأ التاريخ… من الهجرة النبوية الشريفة، ومن محرم، لا من ربيع. كأن الزمن نفسه خضع لأولوية النيّة على التوقيت، وأذعن لفلسفة: أن البداية الحقيقية لا تبدأ عند الوصول، بل عند القرار.

وفي اللغة، الهجرة مشتقة من الجذر العربي هـ ـ ج ـ ر، الذي يعني: الترك، والمغادرة، والانفصال. لكنها في السياق النبوي لم تكن مجرّد ترك، بل تحوّلٌ عميق في المعنى والنية، وقرار بالبدء من جديد حين يخذلنا المكان أو تُخيفنا العادة.

ومن هذا الجذر وُلدت الكلمة: “هجرية”، لتكون وصفًا زمنيًا مشبعًا بالقيم، لا مجرّد ترقيم للشهور.

حين تطلع السنة الهجرية، لا أنظر إلى التقويم، بل أنظر في داخلي:

هل ما زلتُ حيث يليق بي أن أكون؟

هل أملك شجاعة أن أُغيّر… وأُغَيَّر؟

الهجرة إلى الذات تبدأ حين يستفيق الضمير، ويهمس لك: هذا الطريق لم يعد لك.

حينها نُراجع: من الذي لم يعد يشبهنا؟ وأيّ عادة أو فكرة لم تعد تُثمر إلا الإنهاك؟

أنا لا أراها كبداية زمنية، بل أراها كـ”خريف داخلي”،

فصل نُراجع فيه ذواتنا ونسأل: ماذا يُستحق أن يستمر؟ وما الذي آن أوان مغادرته؟

الهجرة إلى الذات، في حقيقتها، إعادة صياغة للداخل، وفرصة لإنهاء ما استُنزف، والاحتفاظ بما يُعين على الاتساع.

الهجرة إلى الذات… خريفٌ يُمهّد لربيع الروح.

وفي الختام… الهجرة لم تكن رحلة نبيٍّ وحده، بل رحلة أمةٍ صدّقت، واحتضنت، ورافقت.

هي حكاية الذين آمنوا دون أن يروا، والذين نصروا دون أن يُؤمروا،

الذين مهّدوا الطريق… فطلع البدر عليهم قبل أن يطلع للعالم.

طلع البدر علينا” ليست مجرد أنشودة ترحيب، بل هو إعلانٌ بأن النور لا يكتمل إلا حين يُقابَل بقلوب مؤمنة.

ففي كل رحلة نور، هناك دائمًا من يُمهّد الطريق، من يؤمن قبل أن يرى، ويكون أرضًا للرسالة قبل أن تكون نورًا للعالم.

كل عام وأنتم بخير،

ومع كل بداية… طلع البدر علينا وعليكم.