كشف فريق علمي دولي عن نجاحه في وضع أول خريطة للتاريخ الجيني للمجموعات البشرية والشعوب حول العالم، تشير إلى التداخلات الجينية الناتجة عن اختلاط الأعراق والشعوب نتيجة الحروب الاستعمارية وتجارة العبيد وغزو جحافل المغول، إضافة إلى تمازج دماء التجار الأوروبيين في مناطق «درب الحرير» مع شعوب الصين.
وتقدم الخريطة الجينية لشعوب الأرض التي توصل إليها باحثون في جامعتي أكسفورد البريطانية و«يونيفرسيتي كوليدج لندن» ومعهد «ماكس بلانك» الألماني للأنثربولوجيا الارتقائية، تاريخ التمازج الجيني الناجم عن الاختلاط بين 95 من المجموعات البشرية والشعوب حول العالم في أوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، على مدى الأربعة آلاف سنة الماضية.
ونشرت الدراسة الموسومة «الأطلس الجيني لتاريخ الاختلاط البشري» في مجلة «ساينس» العلمية هذا الأسبوع. وترصد هذه الخريطة الجينية العالمية، في وقت واحد، تواريخ وخصائص التمازج الجيني بين مختلف الأقوام، وذلك بعد أن تمكن العلماء من تطوير طرق إحصائية متقدمة لتحليل الحمض النووي منقوص الأكسجين «دي إن إيه» المستخلص من عينات 1490 شخصا من المجموعات البشرية الخمس والتسعين حول العالم. وقدمت كل من مؤسسة «ويلكم تراست» و«الجمعية الملكية» البريطانية و«مؤسسة جون فيل» بجامعة أكسفورد ومعاهد الصحة الوطنية الأميركية، الدعم المالي لإجراء البحث.
وشملت الخريطة دراسة لعينات من 12 مجموعة بشرية في العالم العربي هي: المجموعة المراكشية، ومجموعة المزابيين أو بني مزاب وهي من القبائل الأمازيغية في الجزائر، والتونسيون، والمصريون، ومجموعة «البدو» وهم من بدو شمال شبه جزيرة سيناء، والسعوديين، واليمنيين، والسوريين والفلسطينيين، والأردنيين، والدروز، والإماراتيين.
وصرح الدكتور سايمون مايرز الباحث في الإحصاء بجامعة أكسفورد وفي قسم علوم الجينات البشرية في «ويلكم تراست» وأحد المشاركين في الدراسة أن «الحمض النووي (دي إن إيه) يمتلك القدرة على سرد التاريخ والكشف عن أدق تفاصيل الحقب الماضية للبشرية». وأضاف أن «منطلقات فريق البحث لاستخدام البيانات الجينية فقط، مكنت العلماء من تقديم معلومات مستقلة عن أي مصدر آخر، وأن الكثير من ملاحظاتهم تتماثل مع الأحداث التاريخية. كما وجد فريق البحث عددا من أنواع التمازج الجيني التي لم ترصد في السابق؛ إذ قاد تحليل الحمض النووي لأفراد شعب (تو) الموجودين حاليا في الصين، إلى الافتراض بأن أفرادا أوروبيين قريبين من اليونانيين الحاليين قد تخالطوا مع أفراد صينيين في حدود عام 1200. ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن تمازج الجينات ربما حصل خلال رحلات التجار عبر (درب الحرير)».
ووظف العلماء وسيلة فائقة التطوير أطلقوا عليها اسم «غلوبال تروتر»، منحتهم القدرة على الغور في باطن الأحداث الماضية مثل التدقيق في الإرث الجيني للإمبراطورية المغولية. وعلى سبيل المثال، أكدت الدراسة الجديدة على وجود دلائل لتمازج الحمض النووي لدى أفراد شعب الهزارة في باكستان خلال فترة الإمبراطورية المغولية وهو أمر مماثل لما تفترضه التسجيلات التاريخية بأن شعب الهزارة ينحدر جزئيا من المحاربين المغول. كما أظهرت الدراسة دلائل على حدوث تمازج جيني مع المغول خلال الفترة نفسها لدى ست مجموعات بشرية قطنت في مناطق عدة في الشرق، وفي أقصى غرب آسيا في تركيا الحالية.
من جهته، أشار الدكتور غاريت هيلنثال، الباحث في معهد علوم الجينات بجامعة «يونيفرسيتي كوليدج لندن» المشرف الرئيس على الدراسة، إلى أهمية المعلومات المستخلصة من التركيبة الجينية لمختلف شعوب العالم؛ إذ «وعلى الرغم من أن التحورات الجينية الفردية لا تحمل إلا إشارات ضعيفة حول الأصول الجغرافية للشخص، فإن إضافة معلومات من كل الجينوم البشري تقود إلى إعادة تركيب كل الأحداث المترافقة». وأضاف هيلنثال أن «العينات المستخلصة من الأفراد من مناطق مجاورة تقدم في بعض الأحيان مصادر متنوعة مدهشة من التمازج الجيني.. وعلى سبيل المثال، فإننا قمنا بالتعرف على أحداث معينة وقعت في أوقات مختلفة لدى عينات من المجموعات في باكستان، ظهرت بينهم جينات متوارثة من أفريقيا جنوب الصحراء – ربما نتيجة تجارة العبيد – وأخرى من شرق آسيا، وثالثة من أوروبا العتيقة! وأظهرت كل المجموعات البشرية تقريبا وجود أحداث قادت إلى اختلاط الشعوب، وهذه ظاهرة شائعة عبر التاريخ تحدث نتيجة الهجرات عبر مسافات بعيدة».
وحلل الفريق العلمي البيانات الجينية من الأشخاص الـ1490 المشاركين، لرصد «قطعة» الحمض النووي «دي إن إيه» المشتركة بين أولئك الأفراد المنحدرين من مختلف الأقوام. وفي العادة، فإن الأقوام الذين لهم أجداد مشتركون، يتشاركون في عدد أكثر من «القطع» المشتركة، كما تقدم القطع الفردية من كل شخص معلومات عن كروموسومات الأجداد.
من جهته، قال الدكتور دانيال فالوش الباحث في «معهد ماكس بلانك» للأنثروبولوجيا الارتقائية في لايبزغ وأحد كبار مؤلفي الدراسة، إن نتائج الدراسة تتماثل مع سجلات الأحداث التاريخية: «فإن كنت ترغب اليوم في وضع لوحة عن التركيبة الجينية لأفراد حضارة (المايا) مثلا، فإن عليك استخدام حزمة من (الألوان) التي تشمل الحمض النووي لأناس شبيهين بالإسبان، وآخرين شبيهين بالأفارقة من غرب أفريقيا، والهنود الحمر سكان أميركا الأصليين. وهذا التمازج يمتد إلى عام 1670، ويكون متماثلا مع السجلات التاريخية لدخول الإسبان والأفارقة في تلك الفترة».
وقال العلماء إن دراستهم لا تقدم رصدا تاريخيا للتمازج الجيني فحسب؛ بل إنها ربما تتيح للأطباء التعرف على تأثير الجينات المتمازجة على الصحة وانتشار العدوى بين مختلف المجموعات البشرية؛ إذ إن التشابه الجيني وكذلك الفروقات الجينية بين الأقوام قد تحدد آفاق الرعاية الصحية. ويقول مايرز إن «بعض المجموعات البشرية تكون أكثر عرضة لبعض الأمراض، بينما تختلف فاعلية بعض الأدوية من أقوام لآخرين».
وينبغي التنويه بأن حجم الدراسة صغير لأن العينات المدروسة كانت لعدد صغير من الأفراد من كل مجموعة بشرية.
ويتيحا لرابط الإلكتروني:http://admixturemap.paintmychromosomes.com الدخول إلى خريطة التاريخ الجيني؛ إذ يمكن النقر على أي مجموعة بشرية داخل الخريطة للتعرف على تمازج الجينات لدى أفرادها.
ولدى تحليلنا بيانات الدراسة الجينية لبعض الشعوب القاطنة في المنطقة العربية، وجدنا أن العينات التي أخذت من المصريين تشير إلى أن جيناتهم تمازجت بنسبة 17.7 في المائة مع الأردنيين، وبنسبة 11.5 في المائة مع المغاربة (مراكش)، و9.4 في المائة مع الإيرانيين، و8.9 في المائة مع السوريين، و8.5 في المائة مع الإثيوبيين، و6.5 في المائة مع القبارصة، و5.7 في المائة مع الإيطاليين الجنوبيين، و4.8 في المائة مع الأتراك، و3.4 في المائة مع الأرمن، و3 في المائة مع بدو سيناء، و2.9 في المائة مع السعوديين، و2.5 في المائة مع اليونانيين.
أما بالنسبة للسعودية، فإن تحليل بيانات الدراسة يشير إلى وجود تمازج جيني مع السوريين بنسبة 32.1 في المائة، ومع الإثيوبيين 4.4 في المائة، ومع المغاربة اثنين في المائة، والفلسطينيين 1.8 في المائة، وأقوام أخرى.
وسجل التمازج الجيني لمجموعة بدو شمال سيناء نسبة 33.1 في المائة مع السعوديين، تلتها نسبة 17.5 في المائة مع الأردنيين، و7.7 في المائة مع السوريين، و7.4 في المائة مع القبارصة، و4.4 في المائة مع الإماراتيين، و3.4 في المائة مع الإيطاليين الجنوبيين، و3.4 في المائة مع المغاربة، و3.2 في المائة مع الأرمن، وثلاثة في المائة مع الأتراك، و2.9 في المائة مع الفلسطينيين، و2.2 في المائة مع التونسيين، و1.8 في المائة مع الإثيوبيين، وغيرهم.
أما بالنسبة لسوريا فتشير الخريطة الجينية إلى أن التمازج الجيني لها يشمل 31.4 في المائة مع جينات الإيرانيين، و10 في المائة مع الأردنيين، و9.4 في المائة مع السعوديين، و8.8 في المائة مع القبارصة، و8.8 في المائة مع الأتراك، و5.6 في المائة مع سكان جزيرة صقلية الشرقية، و5.3 في المائة مع الإيطاليين، و4.5 في المائة مع الأرمن، و3 في المائة مع الجورجيين، و2.4 في المائة مع البدو (بدو سيناء)، تضاف إليها جينات أقوام أخرى.
وشمل التمازج الجيني للعينات في مراكش رصد نسبة 23.6 في المائة مع الإسبان، و11.9 في المائة مع التونسيين، و11 في المائة مع المصريين، و10.2 في المائة مع المزابيين في الجزائر، و8 في المائة مع الأردنيين، و6.7 في المائة مع الإيطاليين الجنوبيين، و4 في المائة مع سكان صقلية الشرقية، و3.5 في المائة مع الإثيوبيين، و2.8 في المائة مع السعوديين، و2.5 في المائة مع سكان سردينيا، و1.8 في المائة مع البدو، وغيرهم.
المصدر: أسامة نعمان – الشرق الأوسط