«المقيظ».. الهروب من حر الســاحل إلى برودة «البراحات»

منوعات

واجه المواطن الإماراتي قديماً جميع أنواع صعوبات المعيشة وقسوة الطبيعة، التي سعى في كل الاحوال إلى تجاوزها، وإن كان الثمن لذلك المغامرة بحياته أو فقدان عزيز عليه، فلجأ قديماً إلى «المقيظ»، وهي إحدى الرحلات التي ابتدعها الإماراتي ليواجه حرارة الصحراء عبر التنقل من المناطق الساحل، التي تشتد حرارتها ورطوبتها صيفاً، إلى المناطق المعروفة بالمقايظ منها «البراحات»، و«الواحات»، و«المحاضر»، التي غالباً ما تمتاز ببرودة الطقس.

وتبدأ رحلة المقيظ مع بداية فصل الصيف، والمعروفة عند سكان الإمارات قديماً بـ«الكيظ» أو «القيظ»، وهو الموسم الذي ترتفع فيه درجة الحرارة، إذ غالباً ما تتجاوز 40 درجة، كما ترتفع نسبة الرطوبة، خصوصاً على السواحل، ويبدأ موسم القيظ في الإمارات تحديداً مع دخول شهر مايو وظهور نجم الثريا أول نجوم الصيف «القيظ»، وما يلحق بها من ظواهر أخرى مثل انتشار الرطب منها النغال والصلاني، وينتهي موسم «القيظ» في شهر سبتمبر وتحديداً وقت دخول «الأصفري»، أي فصل الخريف عند طلوع نجم سهيل.

مصاعب الرحلة

أكد الباحث في مجال التراث علي أحمد المغني، أن «رحلة المقيظ لم تكن تخلو من المنغصات والصعوبات التي كانت تواجه قوافل الحضار، إذ تتحول الرحلة من مصدر للراحة إلى تعاسة لدى بعض العائلات، لاسيما أن تلك القوافل تواجه قطاع الطرق الذين يغيرون على الجمال المحملة بمؤن المقيظ، كما تواجه القوافل مخاطر المسافات الطويلة التي تقطعها في الطرق الموحشة والصحراء القاحلة، إذ تتحمل حرارة القيظ الشديدة، الذي غالباً لا يستطيع كثيرون تحملها، الأمر الذي يتسبب في وقوع وفيات في الرحلة بسبب المرض أو نتيجة تعرضهم لضربات الشمس والإرهاق وتحديداً بين كبار السن والأطفال». لافتاً إلى أن «القوافل المحملة بالعائلات ترحل معاً، وذلك بالاتفاق مع الكريان، خصوصاً إذا كانت العائلات من المنطقة نفسها، وذلك للتعاون في ما بينهم أثناء الرحلة لصد غارات قطاع الطرق المنتشرين على امتداد طريق رحلة المقيظ، إذ غالباً ما تتكون القافلة من 20 الى 30 جملاً».

و«القيظ» كلمة تعني عند سكان الإمارات المصيف، وفق الباحث في مجال التراث علي أحمد المغني، الذي تعمق في دراسة وتوثيق رحلة المقيظ ضمن مشروع كتاب توثيقي حول القيظ، وقال المغني لـ«الإمارات اليوم» إن «المقيظ وهو المكان الذى يقضي فيه السكان فصل الصيف هرباً من السواحل، وجمعها مقايظ، وتعرف باللهجة المحلية باسم (مكائظ)، أما (الحضارة) فهي رحلة يقوم بها (الحضار) للانتقال من المدن الى المقائظ في فترة الصيف، والقيّاظة يسمون في الماضي بالحضّار».

لافتاً إلى أن «حالات الاستنفار تبدأ في جميع البيوت الإماراتية مع بدء موسم الصيف، إذ تقوم العائلات بالتردد على الأسواق والمحال التجارية للتزود باحتياجاتها من المؤن الغذائية والاستهلاكية، التي تكفيهم طوال موسم القيظ، الذي يمتد من ثلاثة أشهر الى خمسة أشهر، ومن أبرز المواد الغذائية القهوة والطحين والأرز والسكر والملح والحبوب والبهارات والسحناه (مسحوق سمك السردين المجفف)، والمالح (السمك المملح»، والكسيف (السمك المجفف)».

وتكون هناك استعدادات أخرى لدى أصحاب الجمال المعروفين باسم «الكريان»، الذين يقومون بإعداد الإبل وتجهيزها لنقل العائلات الى مقائظهم التي يرغبون في التوجه إليها لقضاء الصيف، كما يستنفر أصحاب السفن الشراعية الصغيرة لنقل العائلات التي اتفقت مع اصحاب تلك السفن لنقلهم إلى أقرب موانئ لتلك المقايظ، التي بمجرد الوصول إليها تكون قوافل الجمال في انتظارهم لنقلهم إلى الأماكن المعدة لهم لقضاء الصيف، بينما في المقائظ تبدأ استعدادات من نوع آخر، إذ يقوم سكان تلك الأماكن بتجهيز بيوت العريش وتوفير المواد والاحتياجات اللازمة لتأمين راحة «الحضار» أو المصطافين.

وسائل التنقل

تختلف الوسائل المستخدمة لرحلات الحضار إلى المقائظ، بحسب المغني، إذ تعتمد على المناطق التي سيقضون الصيف فيها وبعدها عن مدن السواحل، وتعتبر قوافل الجمال هي الوسيلة الرئيسة لرحلات الحضار إلى المقائظ والتي تستخدم لعبور الصحراء والوديان والجبال، كما تستخدم السفن الخشبية الصغيرة والكبيرة وسائل للنقل إلى المناطق البعيدة، إضافة إلى استخدام الدواب، مثل الحمير، كما تستخدم القوارب الخشبية الصغيرة المعروفة باسم «الشواحيف» للتنقل إلى المناطق القريبة.

وتعتبر مهنة «الكرى» من أشهر المهن في موسم «المقيظ»، إذ ينتظر «الكريان» أو أصحاب الجمال، فترة الصيف بفارغ الصبر لينطلقوا في مجموعات الى مدن الساحل لنقل الحضار (أهالي الساحل) الى مناطق مقيظهم، وتتكون كل مجموعة من ثلاثة إلى أربعة «كريان»، الذين غالباً ما يكونون من البدو المعروفين بأمانتهم، ويعتبر «الكريان» من أصحاب الخبرة، ولديهم إلمام كامل بالدروب الصحراوية التي يسلكها الحضار، التي تتوافر فيها آبار المياه وأماكن للراحة، سواء الطرق المؤدية إلى المناطق الجبلية والصحراوية في الدولة أو الدول المجاورة مثل سلطنة عمان.

وتابع المغني أن «الاستعدادات لرحلات قوافل الجمال تتم باتفاق الحضار مسبقاً مع الكري وهو صاحب الإبل عندما يأتي إلى المدينة لبيع الحطب، إذ يتم تحديد موعد الرحلة وعدد أفراد العائلة، ليتمكن الأخير من توفير الإبل اللازمة للرحلة، وتراوح أجرة الكري بين روبية و10 روبيات، وذلك حسب الجهة المقصودة، وبعد المسافة عنها، وحمولة القافلة».

مشيراً إلى أنه «غالباً ما تتكفل النساء بالتحضير لرحلة المقيظ وإجراء ترتيباتها، وذلك لغياب معظم الرجال وانشغالهم في التحضير لموسم الغوص، وتتولى الإماراتية أمر الرحلة، وتعتمد على نفسها في أدق تفاصيلها، وتقوم بالاتفاق مع الكري، مبينة له عدد المطايا التي تحتاجها، وتحديد موعد الرحلة، وفي العادة يتم الاتفاق مع الكري قبل موعد السفر بأسبوع أو أسبوعين حتى يكون هناك متسع من الوقت للاستعداد للرحلة، إذ يطلق على هؤلاء النساء (الكريات)، للدلالة على مجموعة النساء اللواتي يتدبرن أمر الاتفاق مع الكري للقيام برحلة المقيظ».

مناطق «المقيظ»

«البراحات» اشتهرت كمقائظ في بعض المدن الساحلية منها أبوظبي ودبى والشارقة وعجمان وأم القيوين، وتمتاز بمساحات واسعة من أشجار النخيل وآبار المياه العذبة ورمالها البيضاء، ويقصدها الأهالي لقضاء فترة الصيف، ويطلق على هذه المناطق أسماء عدة، مثل البراحة أو النخل، واشتهرت قديماً كلمة «البراحة» وجمعها «براحات» كاسم يتداوله الأهالي، وتتسم البراحات بالهواء المعتدل نتيجة بعدها عن الساحل الذي ترتفع فيه درجة الحرارة والرطوبة.

ويقضي فترة القيظ في البراحات من لديهم مصالح في المدن أو أعمال ومهن، وتحديداً الذين لا يستطيعون الذهاب الى المقايظ البعيدة من محدودي الدخل أو الذين يشكون أوضاعاً صحية متردية، ومن أكبر البراحات المعروفة في أبوظبي تشتهر منطقة «البراحة»، وفي دبي مناطق مثل «أم سقيم» و«أبوهيل» و«البراحة» و«الوحيدة» و«جميرا»، وفي الشارقة هناك مناطق معروفة ومخصصة للمقيظ منها «المرقاب» و«النباعة» و«الشرق» و«الفلج» و«اليزيرة» و«الحيرة » و«نخل عبدالله بن رحمه» و«سمنان»، وفي عجمان مناطق «نخل مريم» و«اليوارة»، وفي أم القيوين منطقة «الراس» و«الحيل» و«شعم» في رأس الخيمة. أما النوع الثاني من المقايظ، فهي الواحات الصحراوية، التي تمتاز بشهرة واسعة في الإمارات، خصوصاً بين أهالى أبوظبى ودبي وتتميز الواحات بكثرة أشجار النخيل والفواكه والمحاصيل الموسمية، كما تضم آبار المياه والأفلاج والعيون، وتتسم بالهواء المعتدل وتنحسر فيها الرطوبة.

وتعتبر واحات مدينة العين الخضراء من أشهر مقايظ الإمارات قديما، والمناطق المشهورة فيها مثل القطارة والهيلي والمعترض والداوودي والجيمي، كما توجد على مقربة من العين منطقة البريمي التابعة لعمان، التي تفضلها الكثير من العائلات في أبوظبي ودبي والشارقة، وترحل إليها في قوافل جماعية، كما تشتهر محاضر «ليوا» وجزيرة دلما والجزر القريبة منها.

وهناك نوع ثالث وهي المناطق الزراعية والجبلية، إذ تعتبر من أشهر المقائظ التي يفد اليها الحضار من مختلف مناطق الدولة لتميزها بوفرة آبار المياه العذبة والأفلاج وعيون الماء الحارة، وتوجد في هذه المناطق الكثير من البساتين التي تضم مختلف أنواع الفواكه الصيفية وأشجار النخيل بأصنافها المختلفة، مثل اللولو والخصاب والنغال، والخضراوات والاعشاب الطبية التي تنمو في هذا الموسم، وكذلك العسل الطبيعي الذي يتوافر في هذه الفترة.

وفي الساحل الشرقي تنتشر مناطق السهول الزراعية الممتدة من كلباء جنوباً وحتى دبا شمالا، التي تكثر فيها أشجار النخيل والفوكه والخضراوات، ومن أهم المقايظ سهول «كلبا» المشهورة ببساتينها الكثيرة، التي تحتوي على أنواع من أشجار الفاكهة، وتضم مختلف أنواع النخيل والآبار العذبة، وتقصدها العائلات من أبوظبي والشارقة ودبي، أما مقيظ «دبا» فيعتبر من المقايظ المفضلة لأهالي الساحل وورد ذكرها في قصائدهم الشعرية.

رحلة العودة

يقضي الحضّار في المقائظ فترة تراوح بين ثلاثة وأربعة أشهر تقريباً حتى أواخر فصل الصيف، وهي الفترة التي يعلن فيها انتهاء موسم الغوص الكبير «القفال» وعودة البحارة والغواصة إلى ديارهم، وقال المغني إن «رحلة عودة الحضار من المقيظ الى الساحل تبدأ في أواخر الصيف، إذ يقوم الحضار بتجهيز أمتعتهم استعداداً لموعد وصول الكريان الذين تم الاتفاق معهم مسبقاً على موعد العودة، الذي يسبق عودة البحارة من رحلة الغوص بأسبوعين تقريباً».

ويقوم المزارعون من سكان البراحات بتقديم الهدايا الحضار وتسمى عندهم «الشفية»، وتشمل التمر وهي أكياس مصنوعة من السعف يوضع فيها التمر والليمون المجفف و«الهمبا» أو المانجو الخضراء التي تصنع منها المخللات، إضافة إلى الخل والسمن البلدي والمنتجات المصنوعة من سعف النخيل، مثل الحصر والمهفات.

وتضطر بعض العائلات إلى العودة بواسطة السفن الشراعية بدلا عن قوافل الجمال، وذلك لكثرة المواد والمؤن والهدايا التي يحملونها معهم من المقيظ، ويفضل البعض منهم القيام بشحن المواد والمؤن عن طريق البحر بواسطة السفن على أن يعودوا الى مناطقهم عن طريق البر ليجدوا مؤنهم ومشترياتهم قد وصلت، وتمتاز رحلة العودة بصعوبتها، إضافة إلى التأثير النفسي على الحضار وأهالي المقايظ، الذين يتفارقون بعد أشهر تعايشوا فيها مع بعضهم، فكونوا صداقات وتناسبوا وتزوجوا في ما بينهم.

المصدر: الإمارات اليوم