داعية إسلامي من السعودية
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ
أَمِنْ أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائح
على كل قبرٍ أو على كل هالكِ
فقال: أتبكي كل قبرٍ رأيتهُ
لِقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدّكادِكِ
فقلتُ له: إن الشَّجا يبعث الشَّجا
دعوني، فهذا كله قبرُ مالكِ
الموت هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ميتم البنين والبنات، مخرب الديار العامرات، أسقى النفوس، مرارة الكؤوس، وأنزل التيجان من على الرؤوس، نقل أهل القصور إلى القبور، وسلّ على الأحياء سيفه المنشور، ألصق الخدود باللحود، وساوى بين السيد والمسود، زار الرسل والأنبياء، وأخذ الأذكياء والأغبياء، فاجأ أهل الأفراح بالأتراح، ونادى فيهم الرواح الرواح، كم من وجه بكفه لطمه، وكم من رأس بفأسه حطّمه، يأخذ الطفل وفمه في ثدي أمِّه، ويخنق النائم ورأسه على كمِّه، ينـزل الفارس من على ظهر الفرس، ويقتلع الغارس وما غرس، يخلع الوزير من الوزارة، ويحطّ الأمير من الإمارة، إذا اكتمل الشاب، وماس في الثياب، وصار قوي الجناب، يُرجى ويُهاب، عفّر أنفه في التراب، يدوس ذا البأس الشديد، والرأي السديد، ويبطح كل بطل صنديد، ولو كان خالد بن الوليد، أو هارون الرشيد، يسحب الملوك من العروش، ويركب الجيوش على النعوش، أسكت خطباء المنابر، وأذهل حملة المحابر، وشتت أهل الدفاتر، وطرح الأحياء في المقابر، كسر ظهور الأكاسرة، قصّر آمال القياصرة، زلزل أساس ساسان، وما سلم منه سليمان، وما نجا منه قحطان وعدنان، صبّح ثمود وعاد، وخرّب دار شداد وما شاد، وهدم إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، لا يترك السلاطين، حتى يوسدهم الطين، لا تظن أنك منه ناج، ولو سكنت الأبراج.
الموت ينادي كل صباح: الرواح الرواح، ويصيح كل مساء: يا حسرة على الأحياء، ويقول للناس: لِدوا للموت وابنوا للخراب، فكلكم يصير إلى ذهاب، يا من أعجبه شبابه، وألهته ثيابه، وأحاط به حرسُه وحجابُه، أنسيت الموت وقد وصلك ركابُه، يا من أشغله السكن، وحب الوطن، وأمن المحن، كأنك بالموت زارك، وهدم دارك.
ستنقلك المنايا عن ديارك
ويبدلك البِلا داراً بدارك
فدود القبر في عينيك يرعى
وترعى عين غيرك في ديارك
الموت كأس يدور على الأحياء، لابد أن يشربه أبناء حواء، الموت ليس له موعد مناسب، فهو يأتي القاعد والماشي والراكب، في ليلة الزفاف، إذا اجتمع الأضياف، يقدم الموت بحشوده، ويهجم بجنوده، يأخذ العريس أو العروس، لأن مهمته قطف النفوس، يُهنّأ الإنسان بالإمارة، ويبارك له بالوزارة، ثم يشنّ عليه الموت الغارة.
يولد المولود، ويعود المفقود، ثم يفجأ الموت الجميع بروعته، فتمتزج بسمة المحب بدمعته، يكتمل الاجتماع، ويلتقي الأحباب من كل البقاع، فإذا تمت السعادة، وكل قلب بلغ ما أراده، وصل الموت ففرق الجمع، وأسبل الدمع.
إذا رأيت قصراً مشيدا، وملكاً عتيدا، وبأساً شديدا، فتذكر الموت فإذا القصر تراب، والملك خراب، والبأس سراب.
إذا رأيت امرأة حسناء، أو حديقة غنّاء، أو روضة فيحاء، فتذكر الموت فإذا الحسن مسلوب، والجمال منهوب.
ويل لمن أشغله ماله، وألهاه جماله، وصده عياله. متى الإفاقة يا من بحب الدنيا مخمور، وببهرجها مغرور، أما تذكر إذا بعثر ما في القبور وحُصِّل ما في الصدور.
أين من رفرفت عليهم الرايات، ورفعت لهم العلامات، وأقيمت لهم الحفلات، وانعقدت لهم المهرجانات.
صاحِ! هذي قبورنا تملأُ الرّحـ
ـبَ فأين القبورُ من عهدِ عادِ؟
خفِّفِ الوطء ما أظنُّ أدِيمَ الأرضِ
إلا من هذه الأجسادِ
سِرْ إن استطعتَ في الهواء رويدا
لا اختيالاً على رُفاتِ العبادِ
رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مرارا
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ
ودفينٍ على بقايا دفينٍ
في طويل الأزمان والآبادِ
تعبٌ كلها الحياةُ فما أعـ
ـجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ
إنَّ حزناً في ساعة الموت
أضعافُ سرورٍ في ساعة الميلادِ
أين من ولّى وعزل، وأين من ظلم وأين من عدل، وأين من سجن وجلد وقتل، أين من حفت به الجنود، واجتمعت عليه الحشود، وخفقت على رأسه البنود، أين من دارت عليه الكؤوس، وانخلعت من هيبته النفوس، وطارت بأوامره الرؤوس، أين من جمع ومنع، ووصل وقطع، واغتنى وافتقر، وهزم وانتصر.
بعض السلف ذكر الموت فخارت قواه، وصاح أوّاه، وبعضهم كاد أن يطير لبه، وأن يتفطر قلبه.
إذا رأيت الإخوان والجيران والخلان، فتذكر كل من عليها فان.
إذا أبصرت البستان والأفنان والأغصان، فتذكر كل من عليها فان.
إذا شاهدت القصور والدور والحبور والسرور فتذكر يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
الله سمّى الموت مصيبة، وأنت عنه في غيبة، أخذ القوي والضعيف، والوضيع والشريف، والغالب والمغلوب، والسالب والمسلوب، قبر الغني جوار قبر الفقير، وقبر المأمور بجانب قبر الأمير.
الموت مباغت لا يستأذن، ومهاجم لا يُؤمَن، لا يترك شاباً ليكتمل شبابه، ولا صاحباً ليتمتع به أصحابه، ولا حبيباً يستأنس به أحبابه، يفصّل الثوب فيأخذ صاحبه قبل أن يلبس، ويبنى المجلس فيخترم الموت الباني قبل أن يجلس، تزف المرأة لزوجها فيهاجمه الموت ليلة الزواج، يزرع الزارع فيختلسه الموت قبل النتاج، الموت له صور وأشكال، ومشاهد وأحوال، مرة يقتل بسيف أو برمح، أو داء أو جرح، أو بعرق ينبض، أو بعضو يمرض، أو بحرب هائلة، أو مجاعة قاتلة، المهم أنه لابد منه، ولا محيص عنه “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ”، يصبّحكم أو يمسّيكم ، “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ”، أو دونكم جنود مؤيّدة، “كل شيء هالك إلا وجهه”، وكل حي فانٍ إلا الحي القيوم. “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ”.
زار الرسل والأنبياء، ووفد على الأصفياء والأولياء، وطاف على الحكماء والعلماء والأدباء والشعراء، فسقى الجميع بكأسه، وهشم الكل بفأسه، فلا صاحب القصر نجا، ولا محب الدنيا عمّر ولو رجا، ولا الكاره له سلم منه ولو ذمّه وهجا، “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ”.
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتالِ
ونرتبط السوابق مقربات
فما ينجين من خبب الليالي
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣١٦) صفحة (١٢) بتاريخ (١٥-١٠-٢٠١٢)