خاص لـ هات بوست:
الخبير الفقاعة: حين يرتدي الجهل قناع المعرفة
كيف نعرف أن من أمامنا جاهل؟
قد يبدو السؤال بسيطًا، لكن الإجابة أعمق مما نتصوّر.
فالجهل لا يتمثّل دائمًا في صمتٍ أو عجزٍ عن الفهم، بل قد يتجلى في ثقةٍ مفرطة وصوتٍ صاخب.
الجاهل، في أخطر حالاته، لا يدرك جهله؛ والأسوأ من ذلك، أنه يظن نفسه مرجعًا في كل ما لا يعلم.
عندها تتحوّل الثقة إلى قيدٍ يغلف العقل، ويغدو الحوار معه سجالًا عقيمًا.
برتراند راسل لخّص هذه المفارقة بجملة خالدة:
“مشكلة العالم أن الحمقى واثقون من أنفسهم دائمًا، أما الأذكياء فتملؤهم الشكوك.”
ليست هذه المقولة توصيفًا معرفيًا فحسب، بل كشفٌ لاختلالٍ عميق في ميزان الوعي؛ فبينما يتواضع العالِم أمام اتساع المجهول، يتعالى الجاهل وكأن الحقيقة قد تجلّت له وحده.
وفي زمن التواصل الاجتماعي وتسخيف المعلومة، تضخّمت هذه الظاهرة أكثر، فصار الجهل يُبثّ على مدار الساعة، بثقة لا تعرف التردد.
هكذا وُلد ما أسميه الخبير الفقاعة؛ شخص يطفو على سطح كل قضية، ويظهر فجأة في ميادين الطب، والسياسة، والدين، والتغذية…
يتحدث بلا جذور، بلا تجربة، وبلا خجل، كأن المعرفة لا تحتاج سوى كاميرا أمامية ونبرة واثقة.
هؤلاء لا يبحثون عن الحقيقة أصلًا؛ غايتهم أن يُسمع صوتهم، لا أن يسمعوا، أن يُقنعوا لا أن يُقنعوا.
ما يجمعهم ليس العلم، بل الجرأة على الادّعاء، وحين يُضاف الجهل إلى الاستعراض، تتحول المعرفة إلى مشهد، ويصير الوهم سلعة قابلة للتداول.
المؤلم أن هذا الجهل، حين يتزيّن بثوب الثقة ويُقدَّم في هيئة خبير، يبدو مقنعًا لكثيرين؛ ليس لأنه كشف لهم الحقيقة، بل لأنه صرخ بها عاليًا، وأتقن الأداء.
فقد بات الصوت المرتفع، عند البعض، معيارًا للصواب، واللغة المتعالية غطاءً للفقر المعرفي.
لكن الخطورة لا تكمن في يقينهم الأعمى وحده، بل في سعيهم لجرّ الآخرين إلى عتمة أفكارهم.
هكذا يتحول الجهل إلى عدوى… ومعركة لا تُخاض من أجل الفهم، بل من أجل إثبات الذات.
من هنا، تنبثق الحكمة:
ليست كل معركة تستحق الخوض، ولا كل صوت مرتفع يستحق الإصغاء.
فحين تختلط الألقاب بالمواقف، والمعرفة بالغطرسة، يصبح تجاهل الجاهل حكمة.
لأن الرد قد لا يُسكت الجهل، بل يُغذّيه.
في النهاية، لسنا ملزمين بالرد على كل قرقعة تتظاهر بأنها صوت الحقيقة.
فالجهل حين يرتدي قناع المعرفة، لا يعلو إلا بالضجيج…
أما الحقيقة، فبطبيعتها واضحة كالشمس؛ لا تحتاج إلى استعراض، بل إلى بصيرة وبصرٍ وقلبٍ سليم.
تجاهل الجاهل ليس ضعفًا، بل انتصارٌ على خواءٍ لا يفضحه سواه.