لا يبدو الاهتمام الكبير الذي تظهره دولة الإمارات بتاريخها القديم غريباً ولا مستحدثاً. فدولة في عمر الإمارات السياسي لا بد وأن تكون تواقة للغوص في أعماق تاريخها للوصول إلى جذورها الغائرة في القدم وربط الماضي بالحاضر، خاصة عندما يكون ذلك الماضي صمام أمان من عثرات الزمان وضروبه.
وقد قال زايد، رحمه الله، «من ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل».
والملاحظ أن الإمارات لم تكن يوماً ما معزولة عن الحقب التاريخية المتعددة التي شهدها العالم، بل ارتبطت بها وتفاعلت معها. فقد شهدت المنطقة تداعيات حقب العصر البرونزي والحديدي، والتي ترجع إلى آلاف السنين، ويشهد على ذلك تلك المواقع الأثرية وتلك اللقى التي تم العثور عليها في أرجاء الدولة.
لذا فاختيار أحد مقتنيات ساروق الحديد ليكون شعار إكسبو 2020 ليس بالغريب ولا المستبعد. فذلك الاهتمام جاء من أعلى قمة في الهرم السياسي، والذي تعاطى مع التاريخ ليس بحكم كونه موقعاً أثرياً، بل لكونه قيمة وطنية وحضارية لدولة الإمارات.
ولكن هذا الاهتمام المتناهي يجب ألا يحول انتباهنا عن نقاط مهمة تهمنا كباحثين في التاريخ ومراقبين لسير أحداثه ألا وهي أن للتاريخ لسان يتحدث به وله عيون ترى وأذان تنصت وقلم يسجل. فهو كالكائن الحي الذي لا شك يقدر أدوارنا للحفاظ عليه وحيادية آرائنا فيه.
فقديماً وصف العلماء المسلمون كابن خلدون وغيره التاريخ بأنه كالكائن الحي الذي ينطق وينصت ويرى ويسجل، ولهذا تعاطى ابن خلدون، مثلاً، مع التاريخ ليس بوصفه أحداثاً وسيراً لقادة عظام، بل من منظور اجتماعي وثقافي خاص خلد اسم ابن خلدون بين العلماء.
وإذا ما تمعنا في سيرورة التاريخ لرأينا أنه في واقع الأمر يروي أحداثه بصدق وبحيادية وينصف شخوصه ولا يتجنى على من لعب دوراً إيجابياً فيه ولو بعد حين، ولذلك حظي التاريخ بمباركة الملوك والأمراء، خاصة عندما يتعلق الأمر بعهودهم وفترات حكمهم. ولهذا تظهر الشكوك وتدور هالات سوداء حول بعض الحقب التاريخية التي شاءت لها الظروف أن يكتب تاريخها بحد السيف وليس بحد القلم. فهذه الحقب غالباً ما تكون أحداثها محرفة ووقائعها مفبركة لمصلحة نظام حاكم أو لخدمة أغراض سياسية وأجندات أيديولوجية تخدم الأنظمة.
ويزخر تاريخنا العربي الإسلامي بمثل هذه الحوادث المفبركة والتي تخدم أجندات وشخوصاً عوضاً عن أن تخدم مصلحة بلدان وشعوب. فلغايات محددة يأتي من يحور تلك الأحداث لمصلحته، ومن هنا تأتي المغالطات، ومن هنا أيضاً تأتي تلك الرواية التي طالما سمعناها وهي «لنعيد كتابة التاريخ»، وهي عبارة لو تمعنا فيها بدقة لرأينا أنها انعكاس أمين للأوضاع العامة في منطقة لا تملك من أمرها شيئاً.
وتعني أيضاً بأن تاريخ تلك المنطقة قد كتب أو وضع بصورة لا تخدم حاضر المنطقة ولا مستقبلها.
ومن المناطق التي عانى تاريخها من التشويه كانت منطقة الخليج. فقد كتب تاريخها بأيد أجنبية لم تتورع في وصف المنطقة بأبشع الأوصاف.
فمن ساحل القراصنة إلى المنطقة «غير الحضارية» إلى المنطقة «المفككة سياسياً وأرض الكفاف» كانت تلك هي الانطباعات التي خرجنا بها من الأدبيات التاريخية المتوفرة عن المنطقة.
ونظل نسأل أنفسنا ومن كتب ذلك التاريخ ومن أي منطلق ولأي غاية؟ وهل هذا فعلاً هو تاريخنا؟ وأين ما تعلمناه في مدارسنا من بطولات لسكان المنطقة ومشاركة اقتصادية فاعلة وشخوص مارست أدوار عالمية كابن ماجد وابن دريد مثلاً؟ وأين الإمارات من الحضارة العالمية؟ بل أين هي من الحضارة العربية الإسلامية التي ملأت الدنيا وشغلت العالم لقرون طويلة عرفت أبانها بأنها العصر الذهبي؟ كل ذلك يدور في أذهاننا ونحن نتابع آخر المكتشفات الأثرية في موقع ساروق الحديد والمكتشفات الرائعة التي تم الإعلان عنها وعرضها.
لقد وضعت تلك المكتشفات تاريخنا في مكانه الصحيح وأثبتت أن هذه الأرض التي تقوم عليها نهضة مباركة اليوم لم تأت من فراغ، بل من خلفية تاريخية وفرت لها الدعامة الحضارية وأثبتت للعالم بأن أرضنا هي أرض عطاء وحضارة متجددة ونشاط إنساني متواصل.
إن اللجوء إلى التاريخ لا يجب أن تكون حاجة طارئة تنتهي بانتهاء الأسباب الموجبة لها ولا احتياجاً ظرفياً قصير الأمد، بل إن التاريخ هو في واقع الأمر شريكنا لبناء مستقبلنا، وعيننا التي تقيس حجمنا في هذا الكون، والركن القصي الذي نلجأ إليه حين تشتد بنا العواصف وتدفعنا ظروف التحضر بعيداً عن ثقافاتنا وقيمنا. إنه الحصن الحصين الذي يحمينا ويحمي أجيالنا.
المصدر: البيان