لا يخفى على أحد ذلك التوتر السائد حالياً بين تركيا وإيران على خلفية الخلاف حول بعض الملفات السياسية والطائفية. فنظرة تاريخية على الخلاف بين الطرفين يتبين لنا أن هذا الخلاف ليس وليد اللحظة التاريخية الراهنة بل هو في واقع الأمر حصيلة قرون من التوتر والصراع بين أكبر إمبراطوريتين مسلمتين غير عربيتين.
فمنذ القرن السادس عشر عندما تحولت فارس إلى المذهب الشيعي وكانت تجاور الدولة العثمانية السنية التي كانت تمثل في ذلك الوقت مركز ثقل الخلافة الإسلامية وحامية المذهب السني، كان الخلاف بين الطرفين حاداً ومؤثراً على وحدة العالم الإسلامي.
وطوال القرن السادس عشر لم تتوقف الحروب بين الطرفين والتي كانت أسبابها مزيجاً من الخلافات السياسية والخلافات المذهبية والمصالح الآنية لكلا الطرفين. ومما أجج الخلاف بين الطرفين هو دخول أطراف أوروبية ذات مصالح خلف كلا الطرفين الخصمين.
كانت وتيرة الخلاف بين الطرفين تتوقف على من يكون في السلطة ومدى القوة والسيطرة التي يتمتع بها. ففي فارس عندما حكم حكام ضعاف أثروا على وضع الإمبراطورية الفارسية في مواجهة الدولة العثمانية، وقد حدث الشيء نفسه مع الدولة العثمانية الأمر الذي جعل العلاقة بين الطرفين علاقة تنافس وحروب منذ الأزل وحتى هذه اللحظة.
وقد اختارت فارس الشمس شعاراً على علمها في مواجهة الهلال الذي اختارته الدولة العثمانية لتعكس ليس فقط التناقض بين الطرفين، ولكن الرغبة في التمدد لأراضي الآخر وممتلكاته والحصول على المزيد من الاتباع.
ومنذ أن بدأت الحروب الكبيرة بين الطرفين كانت نتائج المعارك دوماً وخيمة ليست فقط على هاتين الدولتين ولا على الأقليات الإثنية التي تقطنهما ولكن على دول الجوار أيضاً.
فمنذ معركة جالديران ثم المعارك التاريخية الأخرى وفارس وتركيا تتصارعان على التاريخ والجغرافيا اللذين يحددان العلاقة بين الطرفين والحدود الجغرافية والمصالح المشتركة والأحلاف والقوى الدولية المتحالفة مع الطرفين.
وقد تأثرت دول الجوار بالخلاف بين الطرفين وخاصة الخليج وبلاد الشام والعراق، وهي أكثر المناطق قرباً من الطرفين وأكثرها تأثراً بما يجري في هذين البلدين.
وفي القرون اللاحقة تشابكت العلاقة وتعقدت بالتالي المصالح ودخلت أطراف أخرى وتيارات فكرية جديدة لكي تجعل العلاقة بين الطرفين علاقة في غاية الحساسية. كانت حدة الصراع المذهبي تتوقف على أنظمة الحكم الموجودة في كلا البلدين. فعندما جاء أتاتورك للحكم في العام 1924 توقفت حدة الصراع المذهبي وأن لم تنتهِ.
ففي خلال هذه الفترة كانت كل من تركيا وإيران ترنو إلى العلمانية الغربية بشيء من الإعجاب باعتبارها قضية قادرة على التغير المجتمعي. ودخلت إيران وتركيا فترة هادئة لا تدل على أن البلدين قد دخلتا في حروب وخلافات طائفية.
ولكن حالة الهدوء بين الطرفين سرعان ما تغيرت بتغير نظام الحكم في إيران ومجيء الثورة الإسلامية بقيادة الخميني. فقد دخلت إيران مرحلة جديدة من تاريخها، مرحلة لعب فيها الدين والمذهب دوراً مهماً خاصة مع قيام إيران بتصدير الثورة إلى خارج حدودها.
وخلال هذه المرحلة كان الدور التركي سلبياً. فقد كانت تركيا غارقة في مشكلاتها الداخلية وخاصة مع ظهور النزعات الإثنية في داخل تركيا نفسها ومحاولة الأتراك حل مشكلاتهم الداخلية.
ولكن في السنوات الأخيرة وخاصة مع أحداث الربيع العربي عادت العلاقات الإيرانية – التركية لتحتل مساحة واسعة على الساحة الإقليمية والدولية.
فقد تشابكت العلاقة أكثر فأكثر بين الطرفين خاصة مع ظهور ملفات سياسية جديدة أحدثت خلافات جوهرية بين الطرفين كالملف السوري العراقي واليمنى بالإضافة إلى قضايا دولية أخرى. وظهر اصطفاف دولي مع الطرفين: فبينما وقفت روسيا مع إيران وقف الناتو والغرب مع تركيا. وأعاد هذا الاصطفاف إلى الذاكرة ذلك الصراع التاريخي بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية.
وهكذا في معترك الطوائف والمذاهب لا تزال كل من تركيا وإيران تغذي الصراعات الإقليمية والمذهبية والتي في إمكانها أن تدفع بالمنطقة كلها في جحيم عدم الاستقرار والحروب.
ولا تزال كل قوة إقليمية متمسكة بموقفها الرافض للتنازل أو اللجوء إلى الحكمة في معالجة تلك الملفات الصعبة. وعلى الرغم من النداءات الإسلامية المتكررة للطرفين باللجوء إلى العقل والمنطق والعلاقات الأخوية بين الجارتين المسلمتين إلا أن كلا الطرفين لا يزال متمسكاً بمواقفه، الأمر الذي يهدد السلم والوئام في الأمة الإسلامية.
المصدر: صحيفة البيان