رسائل شاعر القرن العشرين

منوعات

عن دار «فيبر وفيبر» للنشر بلندن صدر خلال هذا العام الجزء الرابع من رسائل ت.س. إليوت (1888 – 1965) الشاعر الأميركي المولد الإنجليزي الجنسية الذي أحدث ثورة في شعر القرن العشرين بقصائده «الأرض الخراب» و«الرجال الجوف» وغيرها، والناقد الذي نحت عددا من المصطلحات كتب لها الذيوع والانتشار مثل «المعادل الموضوعي»، والكاتب المسرحي الذي عمل على إحياء المسرح الشعري في عصرنا بعد أن سادت لغة النثر خشبة المسرح، وقد امتد تأثيره عبر عدة قارات وترك بصمته على عدد من الشعراء والنقاد العرب مثل بدر السياب وصلاح عبد الصبور ولويس عوض ورشاد رشدي وغيرهم.

ويضم هذا الكتاب الذي يقع في أكثر من ثمانمائة صفحة مراسلات إليوت في عامي 1928 – 1929. وهو الجزء الرابع من مراسلاته. سبقه الجزء الأول ويغطي سنوات 1898 – 1922، والجزء الثاني ويغطى سنوات 1923 – 1925، والجزء الثالث ويغطي سنوات 1926 – 1927. حررت الأجزاء زوجة الشاعر الثانية والوصية على تراثه اليري إليوت (وقد رحلت عن عالمنا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) بالاشتراك مع هيو هوتون، ثم چون هافندن، وهذا الأخير أستاذ للأدب الإنجليزي بجامعة شيفلد البريطانية.

حفل العامان اللذان تغطيهما هذه المراسلات بانشغال إليوت بإصدار المجلة الأدبية التي ظل يحررها من عام 1922 حتى عام 1939 وهي مجلة «ذا كرايتريون» (المعيار). وكانت مجلة ذات أفق أوروبي واسع، عملت على توثيق الصلة مع غيرها من المجلات الثقافية ذات المستوى الرفيع في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. ويحفل المجلد بمراسلات إليوت مع الكتاب والشعراء الذين يوافون المجلة بمقالاتهم وقصائدهم وقصصهم. يقبلها للنشر حينا ويعتذر عن عدم نشرها لأسباب مختلفة في أحيان أخرى أكثر عددا، إذ كان حريصا على أن تظل المجلة محتفظة بمستواها العالي، من دون مجاملات أو نظر إلى شهرة الأسماء.

كتب إليوت رسائله المنشورة هنا في غمرة همومه الشخصية، إذ كان قد اقترن في 1915 بفتاة إنجليزية – يفيان هاي وود – لا تنقطع شكاواها من أمراضها البدنية والنفسية والعصبية، مما أدى – كما هو محتوم – إلى تعاسة الطرفين في حياتهما الزوجية، وتوتراتها المستمرة. وقد انتهى هذا الزواج التعيس بانفصاله عنها في عام 1933 (قضت سنواتها الأخيرة في مصحة للأمراض النفسية، وبها توفيت عام 1947). ولم يفارقه قط، صوابا أو خطأ، الشعور بالذنب، إذ عد نفسه مسؤولا جزئيا عما حدث لها، ومن ثم قضى السنوات التالية لوفاتها في حالة تكفير عن الذنب، وفحص للذات ومساءلة للضمير، لم يقرب فيها امرأة – على حد علمنا – وأخذ نفسه بشدة متناهية فلم يستجب لأي من نساء كثيرات وقعن في حبه من طرف واحد، مبهورات بشهرته ونبوغه والاحترام الفائق الذي يحظى به في الأوساط الأدبية حتى من خصومه، فضلا عن وسامته الشخصية وأناقته وجاذبية سلوكه وحديثه.

على أن هذه المرحلة القاتمة من حياته قد آذنت بانتهاء حين عرف الحب – في خريف عمره – لسكرتيرته الشابة اليري فلتشر التي أصبحت زوجته في عام 1957 – رغم فارق السن الكبير بينهما – ومنحته في أواخر عمره السعادة التي حرم منها طويلا.

ويضم الكتاب عددا من رسائل هذه الزوجة الأولى عاثرة الحظ – ييان هاي وود – إلى صديقاتها مثل الليدي أوتولين موريل (التي كانت في وقت من الأوقات عشيقة للفيلسوف برتراند رسل) وماري هتشنسون (التي كانت عشيقة للناقد الفني الإنجليزي كلاي بل).

ورسائل ييان أشبه بصرخات منطلقة من القلب تشي بشعورها بالوحدة وخوفها من المستقبل وآلامها العضوية والنفسية، إذ ترى الهوة تتسع بينها وبين زوجها العبقري، وشبح الجنون يتهددها.

كذلك يضم الكتاب مراسلات إليوت مع والدته شارلوت إليوت (وكانت شاعرة ثانوية) التي كان شديد التعلق بها، وقد رحلت عن الدنيا من دون أن يتمكن من رؤيتها (كانت تعيش في أميركا وهو يعيش في لندن) في سبتمبر (أيلول) 1929، وبعض رسائل إليوت إلى شقيقه الأكبر هنري إليوت.

والمجلد – إلى جانب ما يلقيه من أضواء على حياة إليوت الشخصية – وثيقة مهمة لما يحفل به من آراء إليوت في الأدب والنقد وأحكامه على معاصريه من الأدباء. إنه – مثلا – يكن تقديرا عاليا لأدباء ومفكرين فرنسيين مثل الشاعر الرمزي پول اليري.

وعلى الجانب الآخر نراه يعبر عن ازدرائه لكثير من الشعراء والأدباء الإنجليز والأميركيين في عصره. ويتسم موقفه من الروائي الإنجليزي الكبير د. هـ. لورنس (صاحب رواية «عشيق الليدي تشاترلي») المعروف بدعوته إلى تحرير الجسد من محرمات العصر اليكتوري وإطلاق العنان للغريزة الجنسية بالازدواج الوجداني، فهو يقر بعبقريته الروائية ولكنه يرفض آراءه – من منطلق ديني أخلاقي – ويصف رؤيته بأنها روحية، ولكنها روحية مريضة.

وفي مراسلات إليوت مع الناقد الإنجليزي أ. أ. رتشاردز يناقش قضايا مهمة مثل: ما دور الفلسفة في الشعر، وما هي الصلة بين معتقدات الشاعر وشعره، وهل يمكننا مثلا أن نتذوق «الكوميديا الإلهية» لدانتي، بما تقوم عليه من فكر كاثوليكي، إذا كنا نعتنق فكرا مغايرا أو نرفض فكره المسيحي برمته، كما أن مراسلاته مع الناقد الإنجليزي بونامي دوبريه – الذي كان أستاذا للأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة 1925 – 1929 تضم سخرية لاذعة من تدني مستوى الطلبة الجامعيين المصريين! ومع الإقرار بأهمية هذه الرسائل تلزمنا الأمانة بأن نقول إن إليوت لم يكن كاتب رسائل عظيما مثل الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي چون كيتس، أو الروائي د. هـ. لورنس. فقد كان إليوت أقرب إلى التحفظ والرسمية والميل إلى الكتمان، ومن ثم لا نجد في هذه الرسائل إفصاحا واضحا عما يبطنه. وهو – ككل إنسان – لا يخلو من متناقضات. وفي أحيان قليلة يذم في مجالسه الخاصة أدباء كان يشيد بهم على الورق. وربما هاجم أدباء – لاختلافه معهم دينيا وسياسيا واجتماعيا – هو في أعماقه معجب بهم يحرص على قراءة كل ما جرت به أقلامهم.

وهناك أكثر من ألف رسالة كتبها إليوت لإميلي هال، وهي فتاة أميركية كان يحبها في صدر شبابه ولكن علاقتهما لم تنته إلى خطبة أو زواج (أصيبت بصدمة قوية حين علمت أنه تزوج سكرتيرته اليري فلنتشر، إذ لم تفقد الأمل قط في أن تتوج علاقتهما بالزواج). وقد اشترط إليوت في وصيته ألا تنشر رسائله إلى إميلي إلا عام 2020 حرصا منه على خصوصية العلاقة وألا يكشف عنها الستار إلا بعد رحيله هو ومحبوبته القديمة عن الدنيا.

ولا ندري هل يمتد بنا العمر حتى نرى هذه الرسائل – بعد سبع سنوات – أم لا. ولكن من المحقق أن الأجيال القادمة ستجد فيها ما يشوق وما يسد فجوات واضحة في معرفتنا بهذا الشاعر الكبير الذي لم يكن يخلو من متناقضات ومن تعقيد. ستقدم هذه الرسائل – إذا استعرنا عنوان رواية لچيمز چويس – «صورة للفنان في شبابه» عاشقا وشاعرا في طور التكوين وناقدا متبرعما ودارسا للفلسفة وابنا وأخا وطالبا جامعيا وأميركيا يطمح ببصره إلى الأفق الأوروبي.

المصدر: الشرق الأوسط