كاتب وصحفي سعودي
أستغرب كلما شاهدت محاولات حثيثة تجنح إلى تلميع شخصيات سورية محترقة شعبياً، على رغم أنها لم تخرج من عباءة النظام إلا بعد أن ولغت في قهر وفقر وقتل الشعب. أخيراً خرجت أسماء تمّ الاحتفاء بها تحت صفة «منشق»، بعد أن ضاقت عليها الدائرة، وتمكّنت المعارضة من تحقيق اختراقات وانتصارات على النظام وأربابه وشبيحته. شخصيات ولدت من رحم النظام وتمتعت بكل شيء، وكانت عاشقة للأسد ونظامه وربما ما زالت حتى وإن تبرأت. شخصيات تحمل تاريخاً أسود، وتعتبر شريكة للنظام في البطش والجريمة. تحضر تلك المحاولات السياسية الاستخباراتية المكشوفة وكأنها تريد نقر رؤوس السوريين والربت على أكتافهم بقصد تصويب الأنظار نحو تلك الشخصيات المكروهة داخل سورية قبل غيرها. شخصيات يسوق لها إعلامياً واستخباراتياً وسياسياً على أنها قيادية، وهي لا تستحق كل ذلك الاحتفاء، سواء انشقت أم بقت، لأن الثورة السورية متقدمة وتحاصر النظام وتتعارك معه في العاصمة دمشق ولها قرابة عامين وهي صامدة، ورجال «الجيش الحر» يظهرون في مراحل متقدمة من العنفوان والإقدام، بهدف إسقاط النظام وشركاء الأسد مهما كان الثمن باهظاً، حتى وإن أضرجت جلق الفيحاء وجلق الشهباء بأنهار من الدماء.
آلاف الآلاف قتلوا. آلاف الآلاف أصيبوا. مصابون لا يحصون. نازحون لا يحصون وتكتظ بهم مخيمات اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان. مجازر ومذابح يومية حتى أضحى في كل بيت سوري أرامل وأيتام.
سأضرب بمثالين من بيت طلاس أحدهما العميد مناف طلاس والآخر الملازم عبدالرزاق طلاس، الأول لم ينشق إلا قبل أيام، بعد أن أصبحت سورية حمام دم وهو ربيب النظام وتربية بيت الأسد، وكان قائداً في الحرس الجمهوري ووالده كان وزيراً للدفاع في عهد نظام الأب ثم الابن، ويعتبره السوريين من فرقة القتلة وتلوح في ذاكرتهم مجزرة حماة عندما كان والده وزيراً للدفاع في عهد حافظ الأسد. أما الشخصية الثانية فهو شاب حر أبي يتمتع بالبساطة والتواضع والشجاعة، وقد انضم للثوار منذ البدايات، وحقق شعبية واسعة في سورية بحكم أعماله وشجاعته وصلابته وقدرته على المواجهة من دون خوف من بطش النظام. يخرج عبدالرزاق للشاشات وهو ببزته العسكرية، ويجول بين البلدات المدمرة، ويواسي السكان والمصابين، فيما يخرج مناف تارة من جدة وتارة من أنقرة وتارة أخرى من باريس وهو يوزّع الابتسامات في كامل أناقته، وكأنه ذاهب إلى حفلة غنائية.
في الأيام الأخيرة، اهتم الإعلام بانشقاق نواف الفارس (سفير دمشق لدى بغداد)، ثم خروج مناف طلاس من دمشق وانشقاقه، لكنه لم يكترث بعدد كبير من المنشقين الفاعلين في الميدان، ومن بينهم عبدالرزاق طلاس، الثائر الحر الذي انضم لثورة الشعب منذ الأيام الأولى، فهو كما يروي لهذه الصحيفة بحسب اللقاء الذي أجراه معه الزميل مالك داغستاني في 1 حزيران (يونيو) الماضي يقول: «بعد بضعة أيام من اندلاع الثورة اصطحب مجموعة من أصدقائه الضباط، وراحوا يتجولون بسيارتهم حول المتظاهرين الذين اشتبهوا بأن السيارة لمخبرين. أحاط بهم الشبان وحاولوا التهجم عليهم فما كان من طلاس إلا أن اعتلى ظهر السيارة وكشف عن صدره صارخاً بالجموع: «أنا معكم.. أنا عبدالرزاق طلاس من الرستن». وتراجع المتظاهرون بعد أن تأكدوا من هويته. وتلك لحظة انشقاق عبدالرزاق عن الجيش الذي وجّه مدافعه إلى صدور الشعب بدلاً من حمايته والدفاع عنه. انشق عبدالرزاق عن نظام الأسد سريعاً حينما رآه يقتل الشعب وترك منصبه في الجيش، وأصبح ذلك الشاب مضرب المثل في الإنسانية والشجاعة. ويقول في حواره: «خشيت على أهلي من الأذى، ولكن أهلي كمعظم السوريين يتوقون للحرية، والعائلات التي دفعت دمها ودم أبنائها لا تختلف عن أسرتي». فيما يقول الآخر مناف طلاس إنه تأخر ليخرج إلى تركيا ثم باريس ليضمن خروج بقية عائلته وتأمين خروجه. أليس الفارق واضحاً بين عبدالرزاق الشجاع والمنشق من أجل حرية السوريين قبل أن يفكر في أهله، فيما ابن الوزير وصديق الأسد لم يخرج إلا بعد أن ضمن خروج عائلته وأمن نفسه؟
اللافت، مسارعة ودعوة مناف في بيانه الأول بعد انشقاقه إلى ضمان الشروع في بناء سورية الجديدة، سورية التي لا تقوم على الانتقام والإقصاء والاستئثار. وهذا كلام جيد، لكن من يستمع لمثل هذا الخطاب من شخص للتو انشق سيحلّله بطريقة مختلفة، أو ربما يعتقد أن نظام الأسد رحل، وأن السوريين يناقشون مرحلة ما بعد الأسد، أو كأن مناف يريد أن يقدم نفسه بديلاً عن صديقه ليحل محله. في المقابل، عندما سئل عبدالرزاق عن سورية، قال أحلم كبقية السوريين بأن تكون سورية القادمة بعد سقوط النظام، بلداً ديموقراطياً حراً ومتقدماً، يتمتع بالاستقلالية. وهنا يتضح الفارق بين تفكير من يدافع عن الثورة، ويعيش بين الثوار، ويعرف همومهم وجروحهم، ومن خرج من القصر ولا تزال صورة العودة إلى القصر في ذهنه!
لا شك في أن انشقاق مناف طلاس ونواف الفارس وغيرهما يمثّل صفعة لنظام الأسد، لكن الشعب السوري لا يريد من هؤلاء المنشقين الذهاب إلى باريس وأنقرة والدوحة وجدة، ليصرحوا من فنادق خمس نجوم، ويقدموا النصائح للثوار والزعم بأنهم أبطال المرحلة، بل يريد من هؤلاء حمل السلاح مع الرفاق والنضال والقتال والدفاع عن المظلومين لنصرة ثورة الشعب كما يفعل عبدالرزاق ورفاقه، لا كما يفعل مناف وثلة أخرى من «هتيفة» المؤتمرات والفضائيات.
عن “الحياة” اللندنية