غنيت مكة: تجلّي الإنسانية

آراء

حين كتب سعيد، ولحّن الرحباني، وغنّت فيروز مكة — لم تكن الكلمات من الدين، بل من قلب الإيمان، ومن احترامٍ خالصٍ للآخر.

كان طريق العودة من دبي إلى أبوظبي روتينيًا في الظاهر… لكنه لم يكن كذلك أبدًا.

جلستُ في المقعد الأمامي إلى جانب زميلتي، وكان الطريق الهادئ مدخلًا لحديثٍ غير عابر.

سألتني: لماذا تكتبين وتفكرين دومًا في السلام، والتسامح، والتعايش السلمي، وكل ما يندرج ضمن هذا السياق؟

استرسلتُ في الإجابة، لكنني اختصرتها ببساطة في الجملة التالية:

“أنا أرى التسامح فطرة الإنسانية النبيلة.”

استحضرت في حديثي مشاهد من النشأة، وذكريات تركت أثرًا كبيرًا في داخلي.

وبينما تتوالى الكلمات، وتتزاحم المشاهد في ذاكرتي،

سألتها ببساطة:

“هل سبق لكِ أن استمعتِ إلى قصيدة ‘غنيت مكة’ بصوت فيروز؟”

ثم أضفت قائلة:

“فإن لم تكن تلك الأغنية — أو القصيدة — تجسيدًا لمعاني التسامح، ومعرفة الآخر، واحترامه…

فلستُ أدري ما الذي يمكن أن يكون تجسيدًا أعمق من ذلك.”

وقبل أن تُجيب، كان كوبليه المقدمة قد أصبح رفيق الطريق.

لم أشرح القصيدة، ولم أقدّم خلفية عن الكبير سعيد عقل.

كل ما فعلته هو أن قدّمت مكة كما سمعتها من مكتبة الست فيروز، ومن عبقرية الأخوين رحباني، وفكر الراحل سعيد عقل.

تركتُ الأدب، والفن، والفكر أن يؤدّوا دورهم السامي؛ فحين يبلغ كلٌّ منهم أبهى تجلياته، تُصبح رسالته وحدها كافية بوقعها.

قد تكون تلك الخمس عشرة دقيقة — التي جمعت الفكر، والفن، والأدب — أشدَّ أثرًا من ألف ندوة.

لا أظن أن سعيد عقل كان يحاول أن يُجسّد صوت المسلم، بل كان يُنصت، من مكانه المسيحي، إلى قداسة الإسلام…

في موقفٍ ثقافي، وجداني، حضاري — والأهم: تاريخي وصادق، حيث يُصبح الاحترام شكلًا من أشكال الإيمان.

كانت القصيدة تقول ببساطة:

إن معرفة الآخر لا تبدأ بالشرح، بل بالإنصات… والرقي.

وفي النهاية، ما بقي في الذاكرة الجمعية ليس الصوت وحده، بل ما أودعته المكتبة الأدبية والفنية من أثرٍ خالد:

غنيت مكة أهلها الصيد

العكف الحجاج والزهاد

لم تكن مكّةُ قبلتَهم، لكنّهم عرفوها كما تُعرَفُ القِبلةُ بالوُدّ لا بالاتجاه،

واستشعروها بصفاءٍ لا يبلغه إلا من بلغ أسمى مراتب المحبة الإنسانية…

ذلك الحبّ الذي لا يُحدّه قيدٌ ولا يُشترط له شرط،

بل يسمو به الإيمان بالإنسان.