كاتب سعودي
وتكملة لمقالي السابق “الرد الثامر على سلطان العامر”، سأتناول في مقالي هذا مسألة الطائفية. أولا للتأكد من: هل ما حدث من جزر وقتل في قرية الدالوة، هو عمل طائفي أم لا؟ وثانيا هل دافع من قاموا بالجزر، كان طائفيا أم لا؟ وثالثا، هل هنالك محرضون للمجرمين غير قياداتهم المباشرة؟
ومن هنا، سأبدأ أولا بطرح مفهوم الأخ العزيز سلطان للطائفية، أو بمعنى أصح للطائفي، كما أورده بمقالة “الليبرالية السعودية وحادثة الأحساء: الدولة البوليسية ليست حلا للطائفية”. وبعدها فهم الكتاب الليبراليين لمسألة الطائفية التي انطلقوا منه لإدانة الطائفية والطائفيين والمحرضين عليها الذين انتقدهم العامر عليه.
الطائفي في فهم العامر: “… من يعدّ أن هويته المذهبية هي هويته السياسية. فهو مثله مثل من يرفع الهوية الوطنية، قد يكون مسالما وقد يكون عنيفا، قد يكون متعصبا وقد يكون نقديا، قد يكون داعيا للتآخي والتعاون مع غيره من المذاهب، وقد يكون داعيا للعداء معها، بل إنه قد يكون علمانيا”.
وهذا التعريف كما ذكرت في مقالي السابق هو تعريف فضفاض، لطامة كبرى تواجه العالم العربي، وتوزيع الدم على القبائل، هو أقرب ما يكون للسفسطة منه للبحث العلمي الذي يفضي بدوره للاأدرية التي تفضي بدورها للعدمية وللاحلول أو لحلول غير منطقية.
حيث عرف قاموس أكسفورد الطائفي بأنه “الشخص الذي يتبع بشكل متعنت، طائفة معينة”. كما عرف قاموس ويبستر الطائفي بأنه “ضيق الأفق ضحل التفكير، متعصب ومنافق، ومتزمت وغير متسامح”.
وقد أوردت الموسوعة العلمية البريطانية “بريتانيكا”، تعريف الطائفية بأنها “صراع ينشأ بين طائفتين على أسس دينية أو مذهبية أو طبقية أو مناطقية أو رؤى سياسية”.
وحسب تعريف “بريتانيكا” فإن ما حدث في “الدالوة” هو عمل طائفي مذهبي، إذ لا للطبقية أو المناطقية أو حتى للرؤى السياسية دخل فيه. ولكن إنصافا للعامر، هنالك تعريف للطائفية ورد في “لسان العرب” مشتق من الطائفة وهي “الجماعة والفرقة من الناس”، وكذلك هنالك توافق يضمنه القانون الدولي وهو، أن من حق كل البشر الانتماء والتصريح بالانتماء لأي دين أو اعتقاد أو طائفة، بشرط ألا تحض على أذى أو الإجرام بالآخرين. وهذا القانون الدولي المتحضر، هو ما انطلق منه الخطاب الليبرالي السعودي، وعليه طالبوا الدولة بتطبيقه.
وعليه فالتعريف الليبرالي السعودي للطائفية والطائفي، أتى مطابقا لما ورد في المراجع الأكاديمية والعلمية للقواميس والموسوعات العالمية، وما احتوت عليه القوانين الدولية.
أما أن تنطلق الليبرالية السعودية من تعريف العامر للطائفي وإلا تكون جاهلة بمعنى ومفهوم الطائفية، وعليه يجب أن يطلق عليها “ما تسمى” بالليبرالية السعودية فهذه مشكلة تعريف العامر، وليست مشكلة الليبرالية السعودية.
وخير تعريف للطائفية، هو ما يجري الآن فعلا على أرض العروبة من تمزيق وتشتيت وذبح على الهوية الطائفية، وجعلها قضية من لا قضية له، حتى أصبحت أهم بمسافات ضوئية من قضية العروبة والإنسانية الكبرى. فسلطين المغتصبة والمستباحة بشرا وحجرا، من الصهاينة ومستوطنيهم الأنجاس. والعرب كل العرب مشغولون بمتابعة ما يجري من الذبح الطائفي، ليس من أجل إيقافه، ولكن حتى لا يصل الذبح إلى أعناقهم.
الطائفية أصبحت تشكل أزمة حقيقية تعيشها مجتمعاتنا العربية، وأخذت تتحول لمذهب وإيديولوجية وهوية حلت محل الهويات الأخرى والانتماءات الأعلى، بل وبدأت تتعالى عليها وقد أبدت الاستعداد للتقاطع معها وأخذ موقعها، وهذا ما يهدد الآن وحدة العراق وسورية ولبنان، ودول الخليج بعدها. وهذا ما حدث فعلا في السودان وقسمها، فتقسيم المقسم سيف مشرع على منطقتنا العربية ويمضي بالضرب بلا هوادة، وهذا يجب أن يقض مضجع، ليس كل عروبي مخلص فحسب، بل أيضا كل وطني حصيف.
وقد قسم الزميل العامر الطائفي ـ من خلال تعريفه ـ إلى نوعين: نوع حميد كما يجري في لبنان، وآخر خبيث كما يجري في الهلال الخصيب. هذا على الرغم من أن الطائفية في لبنان منحته عدم الاستقرار وحربا أهلية ضروسا اشتعلت فيه لأكثر من 15 سنة، وتم القتل والجزر فيها على حسب الهوية الطائفية، وكادت أن تحيل لبنان إلى دويلات “كنتونية” طائفية من أجل تأمين وتبرير وجود الكيان الصهيوني، كأكبر قيتو صهيوني طائفي في المنطقة.
الدولة اللبنانية، عاجزة الآن عن إيجاد رئيس لها، ولم تستطع انتخاب برلمان لها كذلك، وشبه فاقدة السيطرة على شمالها وجنوبها على صغر حجمها، وذلك بسبب النظام الطائفي الذي تتبعه. أي حتى الطائفية الحميدة ـ حسب تعريف العامر ـ أعجز من أن تغلف بالحيادية والبراءة.
أي لا شيء حميد يمكن أن يأتي من الطائفية ولو رفعها علماني، قد عرف انتماؤه السياسي لطائفته او مذهبه، وهذا آخر من يدعي أنه علماني أو وطني.
فأنا عندما ذهبت إلى الدالوة وقدمت العزاء لذوي الشهداء هناك لم أشعر ـ ولا لثانية أنني سني ـ بل إنسان أولا ومواطن سعودي ثانيا، وعليه وجوب ذهابي إليهم ومواساتهم والوقوف معهم، ولو معنويا، من دافع إنساني ووطني.
إن محاولة تجسيد الطائفية بلحم ودم، لهي محاولة ساذجة، لأن الطائفية التي أقصدها في السعودية هي كره الشيعة كمكون وطني من أجل أنهم شيعة والسعي لإقصائهم، حتى من بعض الوظائف غير المهمة.
وهذا الكره، للأسف الشديد، قابع في لا وعينا الجمعي الذي تجسده حتى بعض الأنظمة غير المكتوبة ولكن المعمول بها ولو بشكل غير رسمي. ولأن الطائفية قابعة بصلابة في لا وعينا الجمعي فهي مرض يجب التخلص منه قبل أن يتخلص منا، إذ بدأ يظهر لدينا داء التصفية على الهوية، كما حدث في “الدالوة”.
أما لماذا لم يتجسد هذا الكره في اللاوعي الجمعي إلى فعل، إلا الآن؟ فالجواب هو أن البراكين لا تنفجر إلا عندما تسمح لحممها قشرة أرضية هشة للخروج، وهذا لا يعني أن حمم البراكين لم تكن موجودة تغلي تحت قشرة الأرض منذ عقود أو قرون خلت.
إن من يغذي الكرة الطائفي هو في الأول والأخير يحدث هشاشة وتصدعا في أرضية لحمة المجتمع، فتسمح بتدفق حمم البراكين من خلالها، لتحرق وتدمر كل من عليها ولو بعد حين.
ولا عاقل ينكر وجود الاختلافات والصراعات بين البشر فرادا وجماعات، فهذا أمر طبيعي في حركة التاريخ وسنة الحياة. والإشكالية هنا لا تكمن في وجود الاختلاف ذاته، وإنما القدرة على إيجاد بيئة وأنظمة وقوانين تدير عملية الاختلاف، بحيث يتحول إلى اختلاف تنوع وإبداع، لا إلى اختلاف صراع ودمار.
ولذلك فمطالبتنا كليبراليين للدولة بسن قوانين رادعة لكل من ينشر الكره والتعصب والحض على العنف الطائفي ليست من قبيل البوليسية، كما يرى العامر، وإنما من قبيل حماية المجتمع من تغذية اللاوعي الطائفي الجمعي لديه، من أجل التخفيف منه ثم القضاء عليه إن أمكن، حيث أخذ يهدد بالذبح على الهوية الطائفية. ومعظم الدول المتحضرة والديموقراطية العريقة لديها مثل هذه الأنظمة والقوانين، ولا أحد يعدّ ذلك كبتا للحريات والتعبير أو البوليسية. وشكرا جزيلا للزميل العامر.
المصدر: الوطن أون لاين
http://www.alwatan.com.sa